أنت هنا

التاريخ الشيعي: نسيان الخارج والثورة على الداخل
4 ربيع الثاني 1430
أمير سعيد
يمتاز التاريخ الشيعي بوفرة ما يمنحه للباحث من شواهد على ارتداد السهم الطائفي إلى الجسد المسلم، من دون الأجساد في العالم، واندفاع العقيدة الشيعية وأتباعها نحو مهاجمة الداخل الإسلامي، والتغاضي عن حروب الآخرين ممن يناصبون الأمة الإسلامية العداء.
وإذا كنا نشهد من ذلك بوضوح في عصرنا ما يؤكد أن 30 عاماً هي عمر الثورة الإيرانية، لم تفكر فيها في تصدير ثورتها إلا إلى بلاد المسلمين، مكتفية بنشر الفتن في ربوع العالم الإسلامي، من دون أن يدور بخلد دهاقنتها فكرة نشر الإسلام ذاته ودعم قضاياه المصيرية؛ فإننا نوقن أن لهذه الممارسات سلفاً في الطائفة الشيعية؛ فلم يكن بعيداً أن كل التحركات المناهضة لمن يعتبره الشيعة عدواً لهم، هو داخل الحوض الإسلامي، وقائماً تحت راية التوحيد، ومن هنا لم يكن لفظ "الجهاد" هو الدارج في الثقافة الشيعية ـ بعد أن أماتوه برهنه بالمهدي ـ وإنما المرافق للعقيدة "النضالية" الشيعية هو إلى الداخل، وفي قلب العالم الإسلامي، ولذاك كان من الطبيعي أن تزخر الثقافة والأدبيات الشيعية بألفاظ "الثورة" و"الانتفاضة"، علاوة على استدعاء التاريخ كشاهد على ظلم الآخرين لهم في تصورهم، والانزواء في ركن التوهم بالاستضعاف والظلم والقهر، وهذا ما خلف وقوداً جاهزاً للثورة ضد الأنظمة الحاكمة الإسلامية على مر العصور، من دون أن يكون ثمة ما يستدعي ذلك حقيقة، لكنه الموروث المفضي إلى هدم كل الروابط الإسلامية مع الجسد الإسلامي، واستجلاب الثورة، لا بل المؤامرة على العالم الإسلامي، والتاريخ شاهد، وبين يديهم هذه الحيثية في التعامل مع السواد الأعظم من المسلمين؛ فكان الهم الأول لهم على مر القرون هو "الثورة" الداخلية ضد الأنظمة الحاكمة الإسلامية[1]: من الخلفاء والسلاطين من أهل السنة، والانقلاب الداخلي على تلك الأنظمة ودولها، حتى لو توافرت لهم حرية التحرك والقيادة، ولو تبوؤوا في ظل حكم السنة أرفع المناصب.
والواقع أن معظم هذه "الثورات" ـ إن لم تكن كلها ـ لم تكن تحمل نمط "النضال الثوري" بل الانقلاب على النظم التي ربما كانوا جزءًا منها أحياناً، ومن يتأمل يلقَ جملة من الطعنات غير المبررة إلا وفقاً لفكرة التقيّة في المعتقد الشيعي، والتي هي كاسرة لباب الصدق في التعامل بين الحاكم والمحكوم، أو حتى الحاكم ووزيره!!، إذ يمضي تسلسل الأحداث في كل "ثورة" شيعية من خلال ما يبلغ نحو 12 قرناً منطقياً عبر تكفير الحاكم المسلم ونظام حكمه، ومن ثم جواز الخروج عليه لكفره، ثم التعامل معه بالتقيّة ريثما تسنح الفرصة للانقضاض عليه!! وخلال تلك المدة لا مانع من أن يكون الشيعي وزيراً للخليفة يأمر بالدعاء له على المنابر!! ثم يعود فيقتله أو يسمح بقتله، أو حينما تصير "الثورة" دولة؛ فلا غرو من أن تعقد الدولة الشيعية اتفاقاً حين ضعفها مع دولة مسلمة سنية ثم تنكثه حالما يكون المسلمون في ميادين الجهاد ضد الغزاة والطامعين أو فاتحين، أو تطلب دعماً من قائد سني لإنقاذه من ورطته حين يطمع بدولته الضعيفة الصليبيون ثم ينقلب عليه!!
ولكل شواهده:
قامت حركة القرامطة بإحدى الأدوار الاستباقية للشيعة في "تثوير" الوضع الداخلي داخل نظام الخلافة العباسي؛ فقد "أخذت القرامطة تناوئ الدولة العباسية وتحاول الفتك بها، وخاضت ضدها حروبًا كثيرة، تارة سعت بالخيانة، وتارة أخرى أحاطوا بالخلفاء العباسيين الذين كانوا قد بلغوا من الضعف مبلغًا، حتى لم تكن لهم سلطة فعلية، وتجرأت القرامطة على أشرف البقاع، الحرم المكي، وسرقوا الحجر الأسود من الكعبة، وأخذوه إلى بلادهم، وأضعفوا الخلفاء"[2].
لم يزل التاريخ يحفظ دور ابن العلقمي وزير الخليفة المستعصم في دخول التتر بغداد، إلا أنه من المهم هنا الوقوف على علاقة الخليفة بالوزير، يقول السيوطي: "ركن المستعصم إلى وزيره مؤيد الدين العلقمي الرافضي فأهلك الحرث والنسل ولعب بالخليفة كيفما أراد وباطن التتار وناصحهم وأطمعهم في المجيء إلى العراق وأخذ بغداد وقطع الدولة العباسية ليقيم خليفة من آل علي وصار إذا جاء خبر منهم كتمه عن الخليفة ويطالع بأخبار الخليفة التتار إلى أن حصل ما حصل[3]."؛ ففيما كان الخليفة مطمئناً إلى وزيره كان الوزير يتأبط شراً ويضمره له!! يضيف السيوطي: "ودخلوا بغداد يوم عاشوراء[4]؛ فأشار الوزير لعنه الله على المستعصم بمصانعتهم وقال: أخرج إليهم أنا في تقرير الصلح فخرج وتوثق بنفسه منهم وورد إلى الخليفة وقال: إن الملك قد رغب في أن يزوج ابنته بابنك الأمير أبي بكر ويبقيك في منصب الخلافة كما أبقى صاحب الروم في سلطنته ولا يريد إلا أن تكون الطاعة كما كان أجدادك مع سلاطين السلجوقية وينصرف عنك بجيوشه فليجيب مولانا إلى هذا فإن فيه حقن دماء المسلمين ويمكن بعد ذلك أن تفعل ما تريد والرأي أن تخرج إليه فخرج إليه في جمع من الأعيان فأنزل في خيمة. ثم دخل الوزير فاستدعى الفقهاء والأماثل ليحضروا العقد فخرجوا من بغداد فضربت أعناقهم وصار كذلك تخرج طائفة بعد طائفة فتضرب أعناقهم حتى قتل جميع من هناك من العلماء والأمراء والحجاب والكبار[5]". والشاهد هنا ليس في قضية التتر ذاتها (فلها مقامها التالي) وإنما في تلك الآلية التي اتخذها ابن العلقمي في "تخدير" الخليفة، الذي وصفه السيوطي بأنه قد "ركن إليه"، وهو ما يعني جلياً أن الوزير قد كان يحمل فكرة تدمير منظومة الخلافة العباسية بغض النظر عما يجره عليه هذا الإجراء من مغبة فادحة ليس أقلها فقدان منصبه.
يعود نسب الصفويين إلى صفي الدين الأردبيلي، (650-735هـ) وهو الجد الأكبر للشاه إسماعيل الصفوي مؤسس الدولة الصفوية، وقد كان الطريق مألوفاً للأردبيلي: امتطاء ظهر  التصوف والدروشة وتزعم إحدى الفرق الصوفية للادعاء لاحقاً بأنه من نسل النبي صلى الله عليه وسلم، والتحول من إبطان التشيع وإظهار السنية (الشافعية تحديداً هي ما كان يبديه الأردبيلي) إلى إظهار تشيعه، ومحاربة حكام تبريز.
برغم أن "الشاه عباس الكبير حين تولى حكم فارس في العام 985 هـ، سعى إلى إقامة صلح (مرغماً) مع العثمانيين، تنازل بمقتضاه عن تلك الأماكن التي أصبحت بيد العثمانيين، كما تعهد بعدم سب الخلفاء الراشدين - أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم- في أرض مملكته وبعث بابن عم له يدعى حيدر ميزرا رهينة إلى استنبول لضمان تنفيذ ما اتفقا عليه" بعد هزائم منيت بها الصفوية في أعقاب وفاة الشاه طهماسب أسفرت عن فتح العثمانيين مدينة تبريز إلا أنه عاد و"انتهز فرصة اضطراب الدولة العثمانية وباشر في (السيطرة على) عراق العجم واحتل تبريز ووان وغيرهما واستطاع أن يحتل بغداد والأماكن المقدسة الشيعية في النجف وكربلاء والكوفة، وقد زارها وسط مظاهر الإجلال والتقديس[6]".
 
 

 

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] الفقرات التالية عن، أمير سعيد، خريطة الشيعة في العالم.. دراسة عقدية/تاريخية/ديموجرافية/استراتيجية ـ فصل من باب ملامح الحالة الشيعية السياسية عبر التاريخ
([2]) عماد عبد السميع/خيانات الشيعة وأثرها في هزائم الأمة جـ1 صـ32
([3]) السيوطي/تاريخ الخلفاء صـ191
([4]) لعل هذه قضية أخرى قمينة بالتساؤل والبحث
([5]) السيوطي/تاريخ الخلفاء صـ194
([6]) علي محمد الصلابي/الدولة العثمانية عوامل النهوض وأسباب السقوط صـ391 ـ393