الأقليات المنسية
2 ربيع الثاني 1430
د. محمد يحيى

خلال السبعينيات والثمانينيات وحتى أوائل التسعينيات كان من الكتابات المتتالية في شتى الصحف والمجلات والمنابر الإعلامية الإسلامية ركن دائم لما كان يسمى في وقتها بملف اضطهاد الأقليات، وأذكر أنه في تلك الفترة كانت الكتابة في إطار هذا الملف تشبه كثيرًا مهمة رجال الإطفاء الذين ينتقلون من مكان لحريق إلى مكان آخر لحريق، وهكذا يقضون معظم نهارهم في متابعة الحرائق والكوارث المختلفة لمحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه أو على الأقل لمحاولة استدعاء عون أكبر للتغلب على تلك الحرائق والمشاكل، وفي تلك العقود وعلى الأخص في السبعينيات والثمانينيات ومن قبلهما الستينيات كانت مشاكل الأقليات المسلمة تقع في معظمها في الشرق من العالم، حيث كانت أزمة جنوب الفلبين تظهر على الساحة كقضية بارزة تجاورها مشاكل المسلمين في جنوب الفلبين، ومشاكل الأقلية الإسلامية الكبيرة في غرب الصين، ثم مشاكل الأقلية المسلمة الأكبر في الهند مع الهندوس ومع السيخ بل وحتى مع الأقلية المسيحية الصغيرة كما كانت بالطبع هناك قضية أفغانستان والغزو السوفيتي وحولها قضايا أقليات أو بالأصح أغلبيات إسلامية مضطهدة في جمهوريات آسيا الصغرى الوسطى التي كانت في وقتها جزءًا من الاتحاد السوفيتي بل وقد استمر الاضطهاد فيها حتى بعد أن انفصلت عن الاتحاد السوفيتي، وكانت تجاورها اضطهادات لأقليات إسلامية في جمهورية أرمينيا التي كانت سوفيتية ثم استقلت.

وإذا اتجهنا غربًا، فقد شغلت الأسماع في السبعينيات مثلاً قضية الاضطهاد الفاضح الذي تعرضت له الأقلية الإسلامية الكبيرة في بلغاريا وقد وصل الأمر فيها إلى إلغاء الأسماء الإسلامية ومنع إقامة الشعائر تمامًا، ومحاولات للتهجير ووصف هذه الأقلية بالخيانة وأنها من عملاء العثمانيين في عهود مضت وكانت تحيط بعملية الاضطهاد هذه لمسلمي بلغاريا عمليات أخرى لم تكن تظهر تمامًا على السطح، ولكنها كانت تقع في اليونان وفي قبرص اليونانية، وفي بعض دول البلقان، وهي العمليات التي انفجرت تمامًا في مطلع التسعينيات في قضية البوسنة والهرسك، ثم في قضية إقليم كوسوفو، ثم في قضية المسلمين في جمهورية الصرب نفسها، وجمهورية الجبل الأسود، وجمهورية مقدونيا.
وإلى الجنوب في القارة الإفريقية، فكانت هناك مشاكل عديدة ومتصلة لأقليات وأغلبيات مسلمة في آن واحد، ففي الستينيات كانت هناك مأساة زنجبار الجزيرة المسلمة بالكامل التي فرض عليها الضم قسرًا إلى جمهورية تنجانيقا فيما عرف بكيان اسمه تنزانيا، مع العلم بأن تنجانيقا نفسها بها جمهور إسلامي كبير، وإن كان لا يصل إلى أغلبية عدد السكان، وبالطبع كانت هناك اضطهادات للأغلبية المسلمة في الحبشة على يد الأقلية المسيحية التي نجحت في إظهار نفسها على أنها هي صاحبة البلاد، وعلى أنها هي الأغلبية الوحيدة وفي جوار الحبشة في إريتريا حيث الأغلبية المسلمة، كان هناك اضطهاد على يد تحالف مسيحي شيوعي غريب، ثم في كينيا وفي أوغندا لم يخل الأمر من اضطهاد للمجتمعات الإسلامية فيها، وهي مجتمعات كبيرة بكل الأحوال، ثم يمتد مسلسل الاضطهاد إلى وسط وغرب إفريقيا حيث وجدنا أغلبيات مسلمة في نيجيريا مثلاً تقع ضحية لحروب وعمليات اعتداءات وسلب حقوق متوالية من الأقلية المسيحية، وهو الأمر الذي تكرر بدوره في بلدان مجاورة مثل الكاميرون بل ووصل إلى بلدان يكون فيها المسلمون أغلبية مثل غينيا ومالي، ومع مطلع التسعينيات تغيرت الأمور فانتقل الاهتمام بمشاكل الأقليات المسلمة من آسيا وأفريقيا إلى أوروبا، وذلك عن طريق أزمة البوسنة، ولكن بعد أزمة البوسنة مباشرة، انتقل الاهتمام الآن أي منذ تلك الفترة من منتصف وأواخر التسعينيات وحتى الآن إلى أوضاع المجتمعات والجاليات الإسلامية في بلدان غرب أوروبا بالأساس، حيث ظهرت مشكلات جديدة، فبينما كانت مشاكل الأقليات المسلمة في آسيا وأفريقيا على مدى الستينيات والسبعينات والثمانينات تتعلق بمجرد الوجود المادي والحرمان من حق الحياة، فضلاً عن أنواع الاضطهاد القانوني والاقتصادي الأخرى الشديدة والصارمة، وجدنا الآن أن نوعية الاضطهاد التي يتعرض لها مسلمو أوروبا الغربية في بلدانها قاطبة من فرنسا إلى ألمانيا إلى بلدان الشمال الأوروبي وهولندا والدنمرك وصولاً إلى إيطاليا وأسبانيا، تتعلق كلها بجانب ثقافي أساسي، وهو عدم الاعتراف بالثقافة والعقيدة والشريعة والعبادات الإسلامية، والدعوة إلى مطاردتها تحت حجة فرض الاندماج والاستيعاب في المجتمع الأوروبي على المسلمين الذين يعاملون لا على أنهم من أبناء ومواطني تلك البلاد بل على أنهم مهاجرون استقروا فيها بطرق قد تكون شرعية أو غير شرعية، لكنهم على أي حال غير مرغوب فيهم، وإنما لا مناص من التعامل معهم على اعتبار الأمر الواقع وعلى اعتبار أنهم قد قدموا واستقروا في تلك البلاد، وبالتالي فيجب ومع التأكيد على أنهم غرباء على الأوطان الأوروبية الغربية التعامل معهم بسبيل واحد وهو سبيل الاستيعاب والاندماج وفرض معايير وقيم الحضارة الغربية بجزئها العلماني، وشقها المسيحي عليهم مع محو شبه كامل لما هو في عقيدتهم وشريعتهم وأعرافهم وتقاليدهم، ولاسيما في الأعراف والتقاليد التي جلبوها معهم من البلاد الإسلامية العريقة التي قدموا منها إلى أوروبا الغربية، ومع ظهور مشاكل هذه الأقليات الإسلامية الجديدة والتي تسلط عليها الاهتمام الإعلامي سواء في الغرب أو في البلاد الإسلامية نسيت تمامًا قضايا الأقليات الإسلامية في آسيا وأفريقيا وأماكن أخرى وأصبحت الآن تستحق لقب الأقليات المنسية التي مازالت بحاجة إلى مؤسسات وهيئات تهتم بها وتتابع أوضاعها وتتبين ما إذا كان قد حدث فيها تحسن أم تدهورت إلى ما هو أسوأ.