من سياسة رد الفعل إلى الفعل في قضية الأقصى
29 ربيع الأول 1430
أمير سعيد

[email protected]

 

في ذكراها الأربعين التي تحل هذا العام، ماذا عساها، منظمة المؤتمر الإسلامي، أن تقول عن دورها في إيقاف تهويد القدس، ونخر أساسات الأقصى المبارك؟! وماذا يمكنها أن تبرر غثائيتها وعجزها المفرط ومحدودية تأثيرها؟!

إن إطلالة سريعة على أدبياتها، وعلى تعريفها بنفسها ـ عبر منشوراتها وموقعها ـ الذي يتصدر بالعبارة التالية: "تعتبر منظمة المؤتمر الإسلامي ثاني أكبر منظمة حكومية دولية بعد الأمم المتحدة، وتضم في عضويتها سبعا وخمسين (57) دولة عضوا موزعة على أربع قارات. وتعتبر المنظمة الصوت الجماعي للعالم الإسلامي وتسعى لصون مصالحه والتعبير عنها تعزيزا للسلم والتناغم الدوليين بين مختلف شعوب العالم. وقد أنشئت المنظمة بقرار صادر عن القمة التاريخية التي عقدت في الرباط بالمملكة المغربية يوم 12 رجب 1398 هجرية (الموافق 25 سبتمبر 1969) ردا على جريمة إحراق المسجد الأقصى في القدس المحتلة"، لتحمل على الأسى والألم الشديدين لفرط عجز هذه الكتلة البشرية بقادتها ورؤسائها على تغيير الواقع داخل المدينة المقدسة قيد أنملة على نحو يناظر فعل امرأة فلسطينية تتشبث بشجرة زيتون على تخومها، أو يكافئ صلابة عجوز مسن في باحة مسجدها الأقصى المبارك.

من يوم إحراق مسجد المسلمين الثالث إلى نخر أسسه وتهديد بقائه، وتعليقه في الهواء فوق غابة من الأنفاق لا يعلم المؤتمرون ولا الشعوب الساكنة مداها ولا خرائطها، ولو عرفوا ما زادوا عن تمتمة وخطب جوفاء تماثل الأنفاق الجوفاء تحت مسجدنا الأسير.

عن مثل هذه قل بالنسبة للجامعة العربية، وعن لجنة القدس، وعما ينبثق من مؤسساتنا من لجان عرجاء، وهيئات صماء، ثم في ثالثة الأثافي، اذكر هذه الكيانات والقوى الإسلامية التي تعجز عن أن تولي هذه القضية الرئيسية اهتماماً لائقاً وهي التي يتحدث العالم عن نموها.. نعم، إن نمو "ظاهرة الإسلام السياسي" كما يسميها الأكاديميون أو "الصحوة الإسلامية" كما يسميها أنصارها، يجعل من الطبيعي أن يأمل منها المسلمون أكثر من هذا في قضية كهذه.

إن من يتصدر أو يظن أنه كذلك، رائد لجموع المسلمين، عليه استحقاق هائل في فعل ما ينبغي بشأن الأقصى المبارك ومدينة القدس الشريفة، وعليه أن يحيي القضية بحيث يجعل الصهاينة على الأقل في حالة رعب مستمرة من احتمالات انهيار المسجد الأقصى؛ فما نراه من اجتراء على أسس المسجد يترجم مباشرة على أنه إدراك يهودي لعجز هذه الكيانات الإسلامية عن حشد الجماهير ثائرة هادرة مشتعلة، مزلزلة أركان المتواطئين والغادرين والساكتين، فضلاً عن صم جام غضبها على الصهاينة الغاصبين.

الارتياح، هو عنوان الحالة التي يعالجها اليهود وهم يمضون في طريق هدم المسجد الذي بارك الله سبحانه وتعالى حوله، وهو شارة التراجع ـ لا الصحوة ـ التي تعانيها جماهير العالم الإسلامي في ظل العولمة والانكفاء على الذاتين الشخصي والجماعي.

لنكن واضحين؛ فالاحتجاجات في كثير من الأحيان لا تتعدى عند الكيانات الإسلامية أو الجماعات والقوى الإصلاحية حد تسجيل المواقف، وإبراء الذمة شكلياً لا فعلياً، وهي عند فئة لا يستهان بحجمها وسيلة حزبية لمزيد من الاستقطاب السياسي في ظل أحلام تراود بعض الإسلاميين بأن الإسلام لن يعود غريباً ما دامت كياناتهم حاضرة أو موجودة، أو في أحسن الأحوال ممثلة من الخارطة الإعلامية!!

ولكي لا نجلد الذات أو الآخر أكثر من ذلك؛ فالموضوع كما هو معلوم بحاجة إلى نقلة من حالة رد الفعل، إلى التأثير والمبادرة؛ والأمر لن يتأتى إلا بحزمة من الإجراءات والمفاهيم والإجابات الصريحة عن أسئلة مهمة..

فالتشخيص الكامن وراء إخفاق كثير من جماهير الأمة، والتيارات الإسلامية في وقف تراجع الأمة على الأصعدة المختلفة، وفشل الجموع في إنضاج رد مزلزل على بالونات الاختبار التي ألقيت لقياس ردود أفعالها، سواء في أزمة الرسوم المسيئة، أو الاعتداءات المتكررة على المصاحف والمساجد، والتي تنوع تنفيذها ما بين فلسطين (في غزة والسجون الصهيونية في فلسطين 48)، وفي الدنمرك وجوانتنامو (المعتقل الأمريكي بكوبا والذي لم يزل مفتوحاً حتى الآن ولا يبدو في الأفق ما يؤشر إلى إغلاقه كما وعد الرئيس الأمريكي أوباما من قبل) وسجن "أبو غريب"، ومساجد العراق ومصاحفها، وصيدنايا (المعتقل السوري) وما إلى ذلك، ما شكل قياساً بالغ الدقة لمؤشرات رد الفعل الإسلامي، هذا على صعيد المقدسات والثوابت بخلاف المجازر في أكثر من بلد إسلامي كفلسطين وأفغانستان وغيرها، ما عنى أن رد الفعل ليس مساوياً لحجم الجريمة، لا يناظرها، ولا يقترب من الحد الأدنى المرضي في حالات الضعف حتى، كما أن اتجاهاته مشتتة وليست دائماً في عكس الاتجاه (وفقاً لقانون نيوتن) وإنما ربما في نفس الاتجاه، مثلما تخلف مثل هذه الحوادث أفعالاً تصب في مصلحة العدو، وتدفعه لمزيد من الاستغلال والاستغفال للرأي العالمي (إن وجد).

وهذا يدفعنا إلى القول، أن ردات الفعل المحسوبة، والتي لم تعد تزعج كثيراً تجرئ العدو لمزيد من التمادي، لاسيما أن العامل الرسمي في المعادلة يكاد يكون معدوماً، وهو ما تبدى جلياً مؤخراً في غزو أفغانستان والعراق، وأخيراً في غزة والسودان، ـ تحتاج إلى نظرة شمولية كاملة لما تسبب في ذلك، وما عسى الإصلاحيون أن يفكروا فيه للخروج من أزمة الانكماش والانزواء وانتظار الضربات القادمة كأرنب مذعور في ركن حظيرة، أو ملاكم أوشك أن يسقط بالقاضية..

ولذا لا يمكن ابتداء أن نفصل هذا التراخي عن نصرة الأقصى، عن سائر الأمور الأخرى، وهو ما لا يجعل مجرد الاهتمام بالأقصى دليلاً على صلاح الحال، وإنما الحل لا ينفك عن مسألة النجاح في بث روح الإيمان في سائر الأمة، ورفع مستوى أخلاقيتها، وكبح جماح تعلقها بالدنيا سواء ما ارتبط بالتبايع بالعينة واتباع أذناب البقر والرضا بالزرع ـ كما ورد في الحديث ـ أم ما يتجسد في صور معاصرة أخرى؛ فلابد من إدراج ثقلة الشعوب عن نصرة الأقصى ضمن مظاهر ابتعادها عن دينها، وليس الحل في الحقيقة في معالجة الأعراض، وإنما أسباب الأمراض، وذاك، وإن بدا طويلاً، لكنه حقيقة هو الطريق لإنقاذ الأقصى وما هو أعظم حرمة عند الله منه، وهو الدماء المسلمة التي تهراق بلا ثمن في كل مكان.

وإذا كان من المستحيل أن نعالج حالة تراكمية مضت عليها قرون من التراجع والانهزام، ونحن نرى الأقصى تنخر المعاول والحفارات في أركانه تحت الأرض؛ فإن أي إجراء متأكد الآن هو من باب واجب الوقت، وعليه فهو لابد من أن يكون فاعلاً وقوياً ومؤثراً، وإذ ذاك؛ فمن غير المقبول أن ندور حول آليات لم تثبت أبداً نجاعتها في إيقاف الهدم المستمر والتهويد المنفذ على قدم وساق داخل أسوار المدينة القديمة.

إن من المهم في الواقع أن نصارح الجماهير، بأن هدم الأقصى محتمل جداً، وأنه حين يحدث ـ لا قدر الله ـ فما يترتب عليه هو أمر في غاية الخطورة؛ فالحديث الرتيب والدارج عن أن الكيان الصهيوني لن يقامر بهدم الأقصى، حديث هو من باب تسكين النفس، وطمأنة الناس بما ليسوا موعودين به حقيقة، إذ لا توجد أي ضمانة على أن ذلك لن يحدث..

أكرر، لا يوجد ما يجعلنا جميعاً مطمئنين، لاسيما وأن ردات الفعل المتوقعة دون ما يتصور في المرحلة الراهنة، والحديث ـ ربما ـ عن فاتورة كبيرة ستدفعها "إسرائيل" إن هي أقدمت على جريمة كهذه ليس صحيحاً إذا ما انتظرنا ردود أفعال عفوية من الجماهير، لأنه من غير الطبيعي أن تنجح العفوية في فرض آرائها على العالم، ودوننا حزمة من الإجراءات العفوية طغت ثم خبت بأيام وربما شهور من دون أن تحدث تغييراً في المعادلات، وعلينا أن نكون أكثر وضوحاً؛ فالمقاطعات المستمرة للمنتجات الصهيونية لم تحقق المرجو منها، وما تزال المطاعم الأمريكية وغيرها تعج بالرواد ولا تتأثر كبريات الشركات الأمريكية والصهيونية كثيراً بتلك الحملات الطيبة التي نتعاطف معها جميعاً ونؤيدها بكل إخلاص لكننا ندرك أنها لم تزل دون المستوى المأمول، ولا عتب بالطبع على أصحابها؛ فقد أدوا ما عليهم وأحسنوا بحسب طاقتهم، لكن معركة الأمة، لن تخوضها أبداً فئة من المتحمسين القليلة.

إن علينا ـ بكل أسف وحزن معاً ـ أن نعبر إلى تلك المرحلة من التفكير، "ماذا لو هدم الأقصى"، هل الأمة قادرة على إعادة بنائه؟ هل تبلغ الزلزلة المتوقعة حد الإضرار بالكيان الصهيوني حد إزالته عن الوجود؟ ما الموقف المتوقع للحكام في العالم الإسلامي إزاء الكيان الصهيوني وإزاء شعوبهم؟ وكيف سيتعاملون مع هذه الغضبة؟ وما احتمالات قمعها بعد السماح بالتنفيس النفسي والعاطفي عبر جملة من المظاهرات والأنشطة الثائرة دون حد الثورة؟! ما حجم الإحباط الذي سيعتري الأمة مع ذلك، أو ما هو الوقود المبذول لها للقيام بواجبها الشرعي السياسي؟ وهل هو قادر على إحداث جديد؟ وماذا ستفعل الأمة لو وجهت لمعركة أخرى أو مجزرة في مكان آخر لتنصرف إليها الأبصار بدلاً من الأقصى؟؟ .... الخ.

هذه الأسئلة وغيرها، تضع أولي النهى والأفهام أمام استحقاق تاريخي إن وضعوا في أجندتهم احتمال هدم الأقصى حقيقة، وإلا فربما كانت هذه السطور محض هباء وسيناريوهات لأحداث مستبعدة تماماً تتعلق بانهيار المسجد المبارك (وهذا ما نتمناه قطعاً)، وهذا الاحتمال ـ لو صح ـ فلا يجوز أبداً أن يتأخر التفكير فيه وفي تداعياته وفي الاستعداد له ومنع حدوثه، وإلا فإن الأمة كلها تقف الآن خلف الشيخ رائد صلاح وأنصاره ليخوض لها معركتها نيابة عنها!!  

لقد حرت كثيراً وأنا أقلب في قرارات منظمة المؤتمر الإسلامي منذ عقود وحتى اللحظة، كيف أوجد عبقريوها كل هذه العبارات الشاجبة والمنددة، وكيف أسعفتهم قريحتهم في تنويع الألفاظ ما بين التنديد بشدة وبعنف، وبأقصى درجات الإدانة، ووضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته والرأي العام وتعريفه بالقضية.. الخ، ما نم عن وفرة في مفردات التخدير، فيما الأقصى ينهدم.. والأمة تستعد لاستقبال خبر صاعق.. إنهم "يجاهدون" الآن لوضع علامة الأقصى على بعض قنوات التلفزة احتفالاً بالقدس عاصمة للثقافة العربية، يخفقون؛ فيما الكيان الغاصب يستعد لإعلانها عاصمة لدولته المجرمة، في قدس بلا أقصى تحكمها حكومة يمين متطرفة لن تجد أمامها ـ وهي تعاين إخفاقها أمام المقاومة وتوقعات سلبية بشأن بقاء الكيان ـ إلا هروباً إلى الأمام، وليس مستبعداً أبداً أن يكون الهروب هذا بهدم الأقصى أو تركه ينهار "طبيعياً"!!