لو أمرنا لفعلنا، والحمد لله الذي عافانا!
26 ربيع الأول 1430
هيثم الكناني

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وبعد.
فمن المعلوم أن ضلال من ضل من الخلق إنما كان من بابين؛ باب الشبهات وباب الشهوات، ومن المعلوم كذلك أن باب الشبهات أشد خطراً وأعظم ضرراً من باب الشهوات، إذ يُرجى من التوبة والإنابة لمن خالف أمر الله عز وجل لشهوة ما لا يرجى لصاحب الشبهة.

 

لقد أخبرنا ربنا جل وعلا عن معصيتين متقاربتين في الزمن متباعدتين في الحقيقة والأثر، أما الأولى فكانت من عدو الله إبليس يوم أبى أن يسجد لآدم عليه السلام، وأما الثانية فكانت من آدم نفسه يوم أكل من الشجرة التي نهاه الله عنها؛ في ظاهر الأمر لا فرق بين إحجام إبليس وإقدام آدم، ولكن في حقيقة الأمر شتان ما بين المعصيتين!

 

أما إبليس فكانت معصيته لشبهة عارض بها أمر الله عز وجل فقال: {لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الحجر: 33]، وقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [ص: 76]، فقاس اللعين قياساً فاسداً واجترأ على مقام الألوهية بهذه الحجة ولسان حاله يقول: أي حكمة في أمرك لي بالسجود لهذا وأنا خير منه؟ نعوذ بالله من الخذلان.

 

وأما آدم عليه السلام فكانت معصيته لغلبة الشهوة وضعف نفسه أمامها وعجزه عن الوفاء بأمر الله، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115]، فلما ذهبت لذة الشهوة وجاء ألم المعصية تذكر فقال قال هو وزوجه: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23].

 


وبسبب هاتين المعصيتين أُخرِج آدم وإبليس من الجنة؛ أما إبليس فملعوناً مطروداً إلى غير رجعة، وأما آدم عليه السلام فإلى حين. ومنذ ذلك اليوم لم يتوقف بنو آدم عن معصية الله عز وجل لأمر كتبه الله عليهم لا محالة، لكن منهم من كانت معصيته من جنس معصية أبيه عليه السلام، ومنهم كانت معصيته من جنس معصية عدوه القديم.

 

كم مرة قرأنا لرجال ونساء يعترض الواحد منهم على شرع الله بما يشبه حجة إبليس اللعين! كم مرة رأيناهم يعترضون على قسمة الميراث التي تعطي -في بعض صورها لا كلها- الرجل أكثر من المرأة؟ كم مرة رأيناهم يعترضون على حجاب المرأة الشرعي؟ كم مرة رأيناهم يعترضون على حرمة الربا؟ كم مرة رأيناهم يسخرون من غض البصر أو السواك أو تقديم اليد أو الرجل اليسرى في بعض المواطن؟ كم مرة رأيناهم يعترضون على أشياء وأشياء في شرع الله عز وجل!

 

إننا إذا كنا نعلم حقيقة هؤلاء بنور الله عز وجل الذي أعطانا إياه: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 29-30]، فإننا نأسى على من وقع في شباكهم وشراكهم من أبناء المسلمين فراجت عليهم شبهات أولئك وأشربتها قلوبهم، حتى صرنا نسمع من يقول: لن ألتزم بقسمة الميراث حتى أقتنع! ونسمع من يقول: لن أنتهي عن ربا البنوك حتى أقتنع! ونسمع من تقول: لن أرتدي الحجاب حتى أقتنع! ولو أنهم أرادوا بقولهم أي حتى أعلم يقيناً أن هذا هو حكم الله لهان الأمر، لكنهم بكل أسف يعلمون أنه حكم الله، لكنهم يردونه بعقولهم القاصرة زاعمين أنها أحكام لا توافق العقل!

 

ترى أي فرق بين هكذا كلمات وبين قول إبليس: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}؟ ليس ثمت كبير فرق فكلها خرجت من جُبٍّ واحد، جب الكِبْر والقياسات الفاسدة. لكنَّ فرقاً كبيراً بين هؤلاء وبين من يقع في نفس معاصيهم ممن يأكل الميراث أو يأكل الربا أو تخرج سافرة متبرجة مع الإقرار والاعتراف بالذنب والخطيئة، فهؤلاء مع ما هم عليه من خطر بسبب ذنوبهم، ترجى لهم التوبة، ولئن ماتوا قبلها فهم في مشيئة الله، إن شاء عذبهم ثم أدخلهم الجنة، وإن شاء غفر لهم وأدخلهم إياها ابتداءً؛ أما أولئك فتوشك كلماتهم أن تخرجهم من الإسلام بالكلية، الأولون أشبهوا في معصيتهم معصية أبيهم آدم فيوشكوا أن يجتمعوا به في دارهم الأولى، والآخرون أشبهوا في معصيتهم معصية عدو أبيهم وعدوهم فيوشكوا أن يجتمعوا به في قاع الجحيم!

 

إن من يتلفظ بهذه الكلمة البائسة "حتى أقتنع" عليه أن يراجع دينه، ليعلم أولاً قدْر الله عز وجل الذي خلقه، فيعلم أنه سبحانه عليم خبير حكيم، لا يحكم بشيء إلا وله فيه الحكمة البالغة، علمها من علمها وجهلها من جهلها، ويعلم أنه سبحانه فعَّال لما يريد، فليس لأحد من الخلق أن يعترض على حكمه! ويعلم ثانياً قدْر نفسه، وأنه في أصله نطفة مذرة توشك أن تصير جيفة قذرة وبينهما يحمل العَذِرة، ويعلم أن عقله الذي يتكبر به ويعترض به على الله سبحانه إنما هو منحة من منحه عز وجل، فأين يذهب هؤلاء!

 

إن النقاش مع هؤلاء "لإقناعهم" بالحكمة من أوامر الله -فإن اقتنعوا ربما استجابوا وإن لم يقتنعوا لم يستجيبوا- ليست هي السبيل المناسبة لعلاجهم، لكن السبيل هي العودة بهم إلى أصل الإيمان لنعرف هل هم "مقتنعون" بأن الله ربنا ورب كل شيء، وأن القرآن كتابه المهيمن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأن محمداً رسوله الخاتم الذي لا ينطق عن الهوى؟ إن كان الجواب "نعم" بالقلب واللسان فإن آية واحدة من هذا الكتاب المبارك الذي أنزله هذا الرب العظيم على هذا الرسول الكريم تكفي لإسقاط "حتى أقتنع"، يقول تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36]، أما إن بقيت "حتى أقتنع" فهذا يعني أن في إيمان المرء شيء، وأن "نعم" قد قالها اللسان دون القلب.

 

إن مما يجب على كل مسلم أن يعلمه أن قدم الإسلام لا تثبت في قلبه إلا على أرض التسليم لله ورسوله، فإن ثبت الإيمان والإسلام في القلب انقاد الإنسان لأمر الله طائعاً مخبتاً مهما كان هذا الأمر شاقاً على النفوس، كما رُويَ أنه لما نزل قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [النساء: 66]، قال بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أمرنا لفعلنا، والحمد لله الذي عافانا!)(1) ، فهذا دليل الإيمان الصادق، وثمرته ثمرة مباركة، كما قال تعالى في تتمة الآية: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا}، وأما الشك والارتياب والتردد والاعتراض على أمر الله فليس من الإسلام في شيء، والله المستعان.
________________
(1) تفسير الطبري 8/526.