الصلاة بالإيطالية!
25 ربيع الأول 1430
د. محمد يحيى

دعا أحد الساسة الإيطاليين مؤخرًا إلى أن يقيم المسلمون في إيطاليا سواء أكانوا من الإيطاليين الخلص أم من المهاجرين شعائرهم وعلى رأسها الصلاة والأذان باللغة الإيطالية، وهذا تطور غير مسبوق في أوروبا في الفترة الأخيرة باستثناء بعض دعوات في فرنسا وفي هولندا إلى نفس الأمر، وهو يذكرنا بما كان كمال أتاتورك يريد تنفيذه في تركيا في أواخر العشرينيات من القرن الماضي حيث دعا إلى أن تؤدى الصلاة ويقرأ الأذان باللغة التركية حتى مع انتزاع أي كلمات عربية تكون قد أصبحت في صلب تلك اللغة، ولا يجب النظر إلى أمثال هذه الدعوات على أنها مجرد شطحات خيالية لبعض المتطرفين والمتعصبين الذين يبالغون في درجة العداء للإسلام والكراهية له فهي تكشف في الواقع عن أمور أعمق من هذا، فنحن عادة في العالم الإسلامي ننظر إلى هذه التصريحات على أنها مجرد أشياء عابرة تنم عن تعصب فردي لكنها لا تدل على توجهات عامة في تلك المجتمعات ونميل إلى النظر في مشكلة الأقليات أو الجاليات الإسلامية في أوروبا الغربية على أنها مشكلة تتعلق بهذه الأقليات نفسها من حيث عدم رغبتها في التكيف مع الأوضاع في أوروبا وعلى عدم رغبتها في إجراء تمشِ مع العادات والتقاليد والقوانين الأوروبية مع الاحتفاظ في نفس الوقت بقيمهم وعاداتهم وشعائرهم الإسلامية.

 

وتجيء أمثال هذه التصريحات لتدل على أن الأمر في حقيقته على غير ذلك فالذين تصدر منهم هذه التصريحات الداعية إلى المحو التام للهوية الإسلامية وصولاً إلى مطالبة المسلمين بأن يئدوا شعائرهم بلغات البلاد التي يقيمون فيها، أقول أن هذه التصريحات لا تصدر فقط عن ساسة مجانين أو لا يمثلون إلا أنفسهم بل هي تصدر في أحيان كثيرة عن ساسة ينتمون إلى أحزاب عريضة وحتى لو صدرت عن ساسة لا ينتمون إلى تيارات معروفة أو واسعة إلا أنها في نفس الوقت تدل على تيار تحتي موجود ومنتشر ويزداد توسعًا في المجتمع الأوروبي أصبح ينظر إلى كل المهاجرين أو القادمين إلى أوروبا ولا سيما إلى المسلمين بالذات على أنهم خطر على أمن وعلى قيم وعلى هوية أوروبا نفسها إلى حد أن مجرد وجود أفراد مسلمين في تلك البلاد مهما كانوا مسالمين ومهما كانوا مستوعبين ومندمجين في المجتمعات بل ومهما كانوا مفيدين لتلك المجتمعات بقيامهم بالأعمال التي لا يقبل عليها السكان الأصليون إذا جاز هذا التعبير، فهم في كل الأحوال مصدر شكوك وريب ومصدر خطر داهم على أمن الأوروبيين بل وعلى وجود الأوروبيين أنفسهم وعلى تاريخ بلدانهم الذي لا يمتد إلى أبعد من ألفي عام على أكثر تقدير.

 

وترينا هذه التصريحات إلى أن ما هو مطلوب من المسلمين في أوروبا ليس مجرد التمشي مع القوانين السائدة في تلك البلاد، وليس مجرد إجراء عملية تكيف مع القيم الاجتماعية والسياسية العريضة السائدة هناك، بل المطلوب منهم كما تدل هذه التصريحات وبوضوح هو القيام بعملية محو وتذويب لكل ما ينتمون إليه بما في ذلك أدق أمور عباداتهم وشعائرهم وعقيدتهم وصولاً إلى محو اللغة العربية وهي لغة القرآن ومن ثم رفض القرآن نفسه الذي لا ريب سوف يطلب من المسلمين بعد ذلك أن يقرؤوه بتلك اللغات الأوروبية المختلفة، والغريب واللافت للنظر إلى أن هذا المطلب لا يطلب من اليهود مثلاً الذين يقيمون شعائرهم وطقوسهم المختلفة بلغتهم، والذين يصرون على استخدام هذه اللغة في شؤونهم التعبدية كلها والدينية بل وربما خارج هذه الأمور في البلدان الأوروبية، كما أن نفس الأمر لا يطلب من المسيحيين الذين ينتمون إلى جنسيات خارجة عن أوروبا مثل مسيحيي الشرق ومن ضمنهم مثلاً أقباط مصر أو مسيحيي لبنان، كما أنه لا يطلب من المسيحيين القادمين من بلدان تتراوح من روسيا إلى الصرب إلى اليونان إلى سائر بلدان أوروبا الشرقية، فكل هؤلاء المسيحيون ومعهم اليهود لا يطلب منهم التخلي عن اللغة العبرية أو اليونانية أو الروسية أو العربية وما شابه عندما يقيمون شعائرهم وطقوسهم الدينية رغم أنهم يستطيعون التخلي عن هذه اللغات بسهولة، لأن كتبهم المقدسة أصلاً لم تكتب بها، وقد يكون من السهل جدًا ترجمتها إلى اللغات الأوروبية المعاصرة كالإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية وغيرها.

 

والأعجب من هذا وذاك أن ذلك السياسي الإيطالي وأشباهه في بلدان أخرى لم يطلبوا مثلاً من الكنيسة الكاثوليكية التي تقيم شعائرها التعبدية باللغة اللاتينية أن تتخلى عن تلك اللغة التي لم تعد تصلح لتصبح لغة أوروبا الموحدة كما كانت منذ خمسة أو ستة قرون أو أكثر من ذلك بل هناك لغات أخرى نشأت في أوروبا من هذه اللغة الأم ولا أحد الآن يطالب الكنيسة الكاثوليكية بالذات أن تقيم شعائرها بتلك اللغات الأوروبية المعاصرة، وتتخلى عن اللغة اللاتينية القديمة.
إن أمثال هذه الدعوات الموجهة إلى المسلمين وحدهم تدل كما قلت على أن ما يطلب من المسلمين ليس مجرد الكف عن التطرف أو التشدد في أمور الدين أو الكف عن العزلة في المجتمعات الأوروبية التي يقيمون فيها والدعوة إلى التعامل مع الأوروبيين والاندماج في هذه المجتمعات مع الاحتفاظ بحقوقهم في حرية العبادة وأداء الشعائر والاحتفاظ بقيمهم وشريعتهم وأعرافهم وتقاليدهم كما يروج البعض هنا في العالم الإسلامي والعربي ممن يريدون تكرار الدعاية الأوروبية ممن يريدون إلقاء التهم والشبهات على الجاليات الإسلامية، وليس على بعض الدوائر الأوروبية المعادية.

 

إن هذه التصريحات تدل بوضوح على أن المطلوب هو تذويب تام للجاليات الإسلامية في المجتمعات الأوروبية بحيث لا يتبقى لها لا قيم ولا شعائر ولا عادات  ولا تقاليد ولا هوية بل تصبح مجرد مسوخ ذائبة في ذلك المجتمع وليست لها حتى في هذا الوضع مكانة متساوية مع المواطنون الآخرون بل يظلون دائمًا تحت وصمة أنهم أجانب وغرباء عن الوطن الذي يقيمون فيه.