أمن الخليج بين تطلعات إيران وسياسات الولايات المتحدة
22 ربيع الأول 1430
عماد خضر

لا يختلف الكثيرون في حقيقة أن منطقة الخليج العربي لم تهنأ بالأمن والاستقرار المنشودين على النحو الذي وعدت بهما إدارة الرئيس بوش بعد احتلالها للعراق، فلم تنجح الإستراتيجية الأمريكية في ظل التطورات الإقليمية من إدارة الأزمات والتعاطي مع الملفات بصورة حاذقة بل شكلت السياسة الأمريكية نفسها عاملا مساعدا للانفلات والفوضى في المنطقة، وقد وجدت إيران في هذا الوضع فرصة مواتية في بسط هيمنتها إقليميا وزيادة عوامل نفوذها وتطلعاتها وبالتالي تحسين وضعها الإستراتيجي وتعزيز مصالحها القومية، فهي تدرك أنها تعيش في لحظة تاريخية استثنائية تملك فيها من عناصر القوة ما يساعدها على تحقيق طموحاتها من دون تردد أو خوف من أية مواجهات محتملة .

وقد فتح ذلك الباب على مصراعيه أمام إيران للإمساك بزمام الأمور وفق سياسة واضحة ومتوازنة، وجهت من خلالها التفاعلات في المنطقة عموما لإحداث اختراقات للحالة السائدة فعملت عبر أجهزتها المختلفة على نسج علاقات عميقة مع العديد من الأطراف، ووظفت في سبيل ذلك الكثير من الإمكانات والقدرات لتأكيد حضورها المؤثر حتى تستخدمه كورقة ضغط إقليمية في مواجهة الولايات المتحدة والغرب عموما .

 

وكثفت إيران في سبيل ذلك جهودها لكسر طوق العزلة المضروب عليها، وعملت على كسب ثقة دول الخليج، فسعت إلى فتح قنوات الحوار والتفاهم السياسية معها وإظهار رغبتها في بناء علاقات قوية بهدف دفعها بعيداً عن أية مشاريع أمريكية في هذا الشأن من جهة، وطمأنتها تجاه التطلعات الإيرانية وبرنامجها النووي من جهة أخرى، حيث أكد عدة مسؤولين إيرانيين على ذلك خلال زياراتهم لدول مجلس التعاون الخليجي على فترات متباينة. وقد لامس الخطاب الإيراني الرسمي في كل مناسبة وعلى لسان كبار المسؤولين الإيرانيين وفي مقدمتهم الرئيس أحمدي نجاد ملامح الدور الفعلي الذي ينبغي على إيران القيام به مستقبلا وهو القوة الإقليمية الناظمة لميزان القوى والاستقرار، وعلى هذا الأساس تحاول أن تتعاطى مع إدارة الرئيس باراك أوباما .

 

وقد بدأ الأمر جليا بتكرار الدعوة إلى إنشاء منظومة أمنية إقليمية مشتركة تتلقى الدعم والمساندة من دول الخليج العربي دون تدخل أي قوة خارج الإقليم، ومن المؤشرات الحديثة نسبيا وفي خطوة تحمل كثيراً من الدلالات والتساؤلات المهمة، دعا الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، سعيد جليلي، في مؤتمر صحفي عقده مع مستشار الأمن الوطني العراقي، موفق الربيعي، في طهران يوم 20 يناير/كانون الثاني الماضي 2009، إلى تشكيل منظومة أمن إقليمية مشتركة، وهي الدعوة التي أيدها الأخير، معتبراً أن دور البلدين (العراق وإيران) سيكون "مهماً جداً" في تشكيل هذه المنظومة، التي لم يُعرف حتى الآن ما هي أهدافها الحقيقية؟ ومن هي الدول والأطراف التي يمكن أن تنضوي في إطارها؟ وما إذا كانت ستجد طريقها إلى حيز التطبيق العملي أم لا؟ وكيف سينعكس ذلك، إذا حدث فعلاً، على الأمن الإقليمي في المنطقة؟

 

وإذا كتب لهذه المنظومة الأمنية الإقليمية أن ترى النور؛ فإنها لن تضم سوى تلك الدول والقوى تمتلك طهران نفوذاً فيها أو تأثيراً مباشراً عليها . أما إذا أرادت إيران أن توسع من نطاق هذه المنظومة الأمنية الإقليمية من خلال ضم أطراف إقليمية أخرى، ولاسيما دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية؛ حيث سبق أن دعا الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد خلال مشاركته في قمة الدوحة الخليجية عام 2007 إلى إيجاد منظومة للأمن والدفاع المشترك عوضاً عن الاتفاقات الدفاعية والأمنية التي وقعتها هذه الدول مع الولايات المتحدة والغرب، فإن هذا المسعى لن ينجح على الأرجح، بسبب السياسات الإيرانية في المنطقة، والتي تجعل الثقة بين جانبي الخليج العربي مفقودة أو ضعيفة في كثير من الأحيان؛ فقبل أيام قليلة، على سبيل المثال، صدرت تصريحات إيرانية مسؤولة (علي أكبر ناطق نوري، رئيس التفتيش العام في مكتب قائد الثورة الإسلامية) تدعي أن مملكة البحرين جزء من الأراضي الإيرانية، وسبق ذلك بعض المواقف والتصريحات الإيرانية والتي لم تكتف بإنكار الحق التاريخي الثابت لدولة الإمارات العربية المتحدة في جزرها الثلاث المحتلة، بل تمادت إلى حد التلويح بشن حرب في حال تمسك الإمارات وإصرارها على المطالبة بحقها في أرضها المحتلة، ناهيك عن الدور الذي تقوم به طهران في إشعال فتيل الأزمات في كل من العراق ولبنان وفلسطين وغيرها؛ فكيف يمكن الحديث عن أمن إقليمي مشترك في ظل هذه المواقف التي تقوض أية خطوات إيجابية يمكن أن تتخذ لتحقيق الأمن والاستقرار الإقليمي؟!

 

ورغم تأكيد دول مجلس التعاون أكثر من مرة رفضها فكرة اللجوء إلى الخيار العسكري لحسم الخلاف حول الملف النووي الإيراني، وتشديدها على ضرورة تسوية هذه الأزمة بالطرق السلمية، وبشكل يجنب المنطقة التبعات المدمرة لحرب جديدة تودي بأمن واستقرار المنطقة ككل وتهوي بخطط التنمية والنهضة الاقتصادية والرفاه الاجتماعي، فهي أنها تخشى بأن تحظى إيران بعمق إستراتيجي جديد، ولهذا تعتبر إقامة علاقة وطيدة مع الولايات المتحدة مسألة أساسية لا يمكن التخلي عنها او الانقاص من قيمتها. لا سيما أن واشنطن أصبحت عضوا إقليميا والطرف الأقوى القادر على صياغة أي ترتيبات أمنية في النظام الإقليمي الخليجي، وهي تتعامل مع قضية أمن الخليج منذ أمد بعيد باعتباره شأنا داخليا أمريكيا، وأخذت الإدارة الأمريكية تدفع الأوضاع السياسية في المنطقة للاصطفاف الأمني والسياسي ضد إيران وظهر ذلك جليا مع الإدارة الأمريكية السابق.

 

وتتنازع إدارة الرئيس باراك أوباما، بطبيعة الحال رؤى مختلفة منها تطوير رؤية ليست بعيدة عن الإستراتيجية الأمريكية لربط النظام الأمني الخليجي بالنظام الأمني الشرق أوسطي على أن تقوم واشنطن بدور أمني رئيسي لفرض السلام من خلال الاحتفاظ بالهيمنة ودعم أنظمة دول المنطقة، وحمايتها من مصادر التهديد الإقليمية والتمدد العسكري رغم أن مصداقية الولايات المتحدة من الناحية السياسية أصبح مشكوك فيها بعد أن فشلت في الوفاء بالتزاماتها في العراق، في المقابل يطرح الخطاب الأمريكي الهادئ نسبيا تجاه الملف الإيراني تساؤلا عن تحقيق فرص تسوية تحفظ ماء الوجه الأمريكي بإيجاد صيغة أمنية إقليمية تسد الفراغ الذي قد يخلفه انسحاب القوات الأمريكية من العراق مستقبلا ، وهذا الطرح يتناسب- في حال تم اعتماده – مع طموح إيران التي أطلقت الدعوة إلى إنشاء منظومة أمنية إقليمية مشتركة في اليوم نفسه الذي تسلم فيه الرئيس الأمريكي الجديد باراك أوباما مهام منصبه، وتأكيده من جديد تمسكه بموقفه الداعي إلى سحب القوات الأمريكية من العراق خلال 18 شهراً .

 

وإذا كانت إدارة أوباما قد عقدت العزم على الدخول في حوار مباشر مع إيران لتسوية أزمة برنامجها النووي، فإن طهران يمكنها، من خلال تشكيل مثل هذه المنظومة الأمنية الإقليمية الجديدة، تقوية موقفها التفاوضي للحصول على أكبر قدر ممكن من المكاسب الإقليمية، وربما دفع الإدارة الأمريكية الجديدة إلى الاعتراف بدور إقليمي مهيمن لها في المنطقة، من خلال إبراز قدرتها على المساهمة في حل كثير من المشكلات والأزمات التي ربما تجد الولايات المتحدة صعوبة في تسويتها من دون إيران، التي تعد بدورها طرفاً أساسياً في معظم هذه المشكلات والأزمات أو محركاً لها.
وتصر السياسة الأمريكية على إبقاء جميع الخيارات مفتوحة في التعامل مع هذا الملف بما في ذلك خيار القوة المسلحة، وتسعى جاهدة إلى حشد حلفائها في دول الخليج والمنطقة لمواجهة الخطر الذي يمثله البرنامج النووي الإيراني عليها من جهة، وتوسيع نطاق العقوبات الاقتصادية لإجبارها على إيقاف برامج إنتاج الوقود النووي، فضلا عن فتح الحوار مع طهران بشأن العراق لإعادة استقراره والحد من أعمال العنف وتدهور الأوضاع في ظل المعضلة التي تواجهها في العراق. وهذا يجعل الإيرانيين يرون أنفسهم في موضع قوة يسمح لهم، إلى حد ما، بعدم الرضوخ للضغوط الخارجية .
على العموم، يجب على الأنظمة العربية أن تواجه حقيقة أن دخول إيران للمنطقة ممكن لسببين، الأول، عجزها عن التعامل مع الموضوع الفلسطيني، فلو أنّ أدوات السياسة الخارجية العربية الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية، قادرة على فرض تسوية للموضوع الفلسطيني، لما احتاجت "حماس" للتعاون مع إيران. وثاني أسباب تمكن "إيران" من دخول المنطقة هو عدم تبلور مفهوم المواطنة القائمة على عدم التمييز بين المواطنين على خلفية المذهب والدين والأصل والانتماء العائلي، ولكن بما أنّ هناك تمييزا على هذه الأسس سيبقى هناك قوى وأقليات تعمل على تعزيز موقفها الداخلي بواسطة الدعم الخارجي.

حوار وتفاهم
وبالضرورة فالأمن في منطقة الخليج العربي يقع بين حجري الرحى؛ فمن جانب تدفع إيران نحو تغيير الوضع القائم بصورة ثورية، فيما تصر الولايات المتحدة على إعادة تنشيط التزامها العسكري نحو دول الخليج وممارسة ضغوطها، يحتاج إلى مبادرة سياسية تستهدف خلق إطار للحوار والتفاهم الاستراتيجي بين دول المنطقة وإيران بالأساس، تزيد من فرص التلاقي، وليس التصعيد، بهدف تطوير العلاقات السياسية والاقتصادية وحماية مشاريع التنمية الاقتصادية والاجتماعية الواعدة، فالشراكة الإستراتيجية الإقليمية هي السبيل إلى ضمان الأمن والاستقرار ومعالج الملفات الشائكة بالوسائل السياسية والدبلوماسية بعيدا عن ساحة الصراع، فوجود خلافات سياسية أو إستراتيجية لا يعني تجاهل الآخرين وإغفال حقيقة الوجود الجغرافي الأصيل للجميع في المنطقة .

 

ويأتي في هذا الإطار تقليل التقرير الإستخباراتي الأمريكي الصادر عن مكتب "مدير المخابرات القومية" الأمريكي، وهو المكتب المسئول عن متابعة عمليات جمع المعلومات التي تقوم بها أجهزة الاستخبارات الأمريكية المختلفة، من خطر امتلاك إيران للقنبلة النووية. وأن إيران أوقفت برنامج تسلحها النووي في عام 2003، كما أنها تبدو أقل إصرارا على تطوير أسلحة نووية مما كانت تعتقده إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش قبل ذلك. وخلص التقرير، الذي يشكل خلاصة التقارير والمعلومات الاستخباراتية المتوافرة لدى مختلف أجهزة الاستخبارات الأمريكية، إلى أن إيران أوقفت الجانب العسكري من نشاطها النووي بسبب الضغط الدولي المتعاظم وهو ما اعتبره التقرير مؤشرا على أن إيران ربما تكون أكثر قابلية للاستجابة للضغوط بشأن هذه القضية عما كان يعتقد سابقا في إشارة إلى "التقدير الاستخباراتي القومي" السابق الصادر عام 2005.

كما أن تشكيل منظومة أمنية إقليمية مشتركة فاعلة وشاملة في المنطقة يحتاج إلى بيئة سياسية مناسبة، وهذه البيئة لن تتوافر إلا إذا تم اتخاذ إجراءات جادة لإعادة بناء الثقة بين دول المنطقة، في مقدمتها توقف طهران عن التدخل في الشؤون الداخلية لدول المنطقة الأخرى وبناء علاقاتها مع هذه الدول على أساس الندية والمصالح المشتركة، وتسوية كافة المشكلات العالقة بين هذه الدول بأساليب حضارية سواء من خلال الحوار المباشر أو عبر آليات القانون الدولي، والكف عن سياسة استعراض العضلات ومحاولة إرهاب الجيران، ومن دون ذلك لن يمكن الحديث عن أي منظومة أمنية مشتركة في المنطقة. أما إذا كان الهدف هو توفير غطاء للتدخلات الإيرانية في العراق وباقي دول المنطقة، وزيادة الانقسام والتوتر فيها، فإن النتيجة ستكون خلق مزيد من التوتر الأمني وعدم الاستقرار في المنطقة، ولن تسلم من ذلك إيران نفسها .

ولا يغيب عنا أن أوهام النجاح التنموي الإيراني بحاجة لتوضيحها للرأي العام العربي بكل واقعية، فبالتوازي مع الحديث عن صناعة متطورة في الطاقة النووية فإنّ صناعة الطاقة التقليدية الإيرانية تعاني إلى حد يجعل إيران وهي ثاني أكبر الدول المصدرة للنفط الخام في منظمة "أوبك" تستورد نحو 40% من احتياجاتها من البنزين بسبب نقص مصافي النفط، وتتراجع صادرات النفط باطراد بسبب المشاكل الفنية في آبار النفط، كذلك اتضح العام الماضي هشاشة قطاع الغاز الإيراني، فبمجرد قطع الإمدادات الخارجية من الغاز أصيبت مناطق واسعة من إيران بالشلل، هذا فضلا عن أنّ عدد مدمني المخدرات في إيران يصل إلى 1.6 مليون مدمن مخدرات، ما يجعل إيران صاحبة أعلى نسبة إدمان في العالم (نحو 8% من السكان)، بما يرتبط بذلك من ارتفاع نسب المصابين بالإيدز، وظواهر الفقر، والدعارة، والبطالة العالية التي تعترف الحكومة بأنها نحو 11% فيما تقول تقارير مستقلة إنها25%. فواقع الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بحاجة للعرض للملأ حتى لا يعتقد البعض بأنّ هناك نموذج تنمية يمكن استيراده من إيران مع أشياء أخرى، وليكون واضحا أنّ النجاح التنموي في الدول العربية المجاورة لإيران يفوق بكثير ما في إيران.

 

ولا شك في أن استمرار حالة الضعف والانقسام العربي الراهن يصب في خدمة مصالح القوى الإقليمية الأخرى وفي مقدمتها إيران، التي تستغل هذه الحالة لتعزيز نفوذها في المنطقة، ومن ثم فالمطلوب هو اتخاذ خطوات جادة عربياً لإنهاء هذا الانقسام غير المسبوق، ليس من خلال المصالحات الصورية كتلك التي حدثت في قمة الكويت الاقتصادية، ولكن من خلال البحث في أسباب هذا الانقسام ومحاولة تسوية كافة الخلافات القائمة؛ فترتيب البيت العربي من الداخل هو الخطوة الأولى والأكثر أهمية للتصدي لكافة مشروعات الهيمنة الخارجية، الإقليمية منها والدولية، والتي تشكل تهديداً مباشراً للأمن والاستقرار في المنطقة العربية، ورغم إدراكنا لصعوبة إنهاء هذا الانقسام العربي؛ فإن الأمر لن يكون مستحيلاً إذا أدرك الجميع خطورة التحديات التي تتهدد هذه الأمة.