سفر..
21 ربيع الأول 1430
د. خالد رُوشه
بينما أنظر إلى الركب المسافر , تتراءى في عيني ذكريات العمر القريب .. حيث الحياة كلها بمعنى السفر , برا كان أو بحرا أو جوا يمر السفر , والأيام كقارب للنجاة أو الغرق , كقطار يبعد حتى الغروب , حتى نهاية الرؤى وألوان الحياة ..
 
ونحن المسافرون , قليلا ما نحمل معنا الزاد أو عدة الرحيل , وقليلا ما نهتم بصحبة الطريق , لكننا ننبهر كثيرا بألوان الأشياء العابرة , الجبال والأشجار والصحراء والخضرة , نتابعها دون أن يطرف لنا جفن , ونسهو عن مسافات البعد عن البداية , ونغفل أننا قاربنا نهاية السبيل ..
فلماذا إذن يفرح المسافرون الغافلون أن يقطعوا مسافات السفر ؟ ولماذا إذن يسعدون عند الاقتراب من الوصول ؟ !
 
إن كل يوم نسافر فيه يدنينا من نهاية الحكاية , يقربنا من ختام العمل , حيث لا شىء غير لحظات الحصاد , والحزن ينتظر , أو السعادة تنتظر ..
 
فكيف إذن يحتفل الساهون بمرور دورة الزمان إذا كانوا ينتظرون أيام الحساب ؟! ولماذا يجهدون أنفسهم عبر الأروقة إذا كانت الآلام ربما تنتظر عند الخط الأخير؟!
 
وبينما الرسول الحبيب صلى الله عليه وسلم يرسم لنا معاني الحياة إذا به يقر في عقولنا كونها سفر يحتاج إلى زاد وصحبة , حتى إنه ليزهد راغبا عن الدنيا بما فيها كونه مسافرا نحو الحياة الحقة الخالدة , فيقول :" مالي ودنياكم , إنما أنا كمسافر استظل بظل شجرة ثم راح وتركها "
 
الراحلون حتما لا يحسنون زخرفة أماكن المبيت , ولا يسعدون بتعمير ديار هم لها مفارقون
ولا يتعبون أنفسهم وراء صيد يعلمون أنهم لن يلحقوه ..
 
الراحلون الصالحون دوما نصب أعينهم نقطة النهاية , يعدون لها , ويعيشون بأحلامها الناعمة الهانئة , فيدفعون قلوبهم دفعا نحو التقدم , وينبتون في نفوسهم نبات لقاء الحصاد بعد الغرس الطويل الذي غرسوه بأيديهم المخلصة , وسقوه بعرقهم النقي الصادق , وراقبوه بعيونهم الساهرة الباكية الخاشعة , ورعوه بقلوبهم المخبتة , فكأني بهم يزفون خطاهم نحو ما يأملون " فلا تعلم نفس ماأخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون "