25 ربيع الأول 1430

السؤال

أعمل في أحد الأعمال الدعوية التربوية وأرتبط مع طلاب أربيهم وأعلمهم لكن رأى الإخوة أن البيئة غير مناسبة للعمل التربوي فقررنا النقل من المنطقة مع وجود سبب رئيس آخر وهو المضايقة الشديدة لنا في المسجد.. فمارأيكم؟!

أجاب عنها:
همام عبدالمعبود

الجواب

أخي الحبيب:
السلام عليك ورحمة الله وبركاته، وأهلا ومرحبا بك، وشكر الله لك ثقتك بإخوانك في موقع (المسلم)، ونسأل الله عز وجل أن يجعلنا أهلا لهذه الثقة، وأن يتقبل منا أقوالنا وأعمالنا، وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم، وألا يجعل فيها لمخلوق حظًا،...آمين.. ثم أما بعد:
بداية؛ فإنني أذكرك – أخي الحبيب- بفضل الله عليك؛ ونعمه الكثيرة؛ التي لا تحصى قال تعالى: (وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ) [النحل- 18]؛ وأولها: أن هداك إلى الإسلام، وكفى بها نعمة، قال تعالى: (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[آل عمران- 85]، وثانيها: أن هداك إلى السير في طريق الأنبياء، طريق الدعوة إلى الله، قال تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [فصلت- 33].
وأود أن ألفت انتباهك إلى أن العمل في مجال الدعوة إلى الله، شرف كبير لا يدانيه شرف، لكنه في الوقت ذاته عبء ثقيل، يستلزم توافر صفات عدة فيمن يسلك هذا الطريق، منها: الإخلاص والتجرد والثقة بالله، ثم الصبر والصدق، ثم العلم الشرعي مع دقة الفهم والوعي، وفوق هذا كله الحكمة، وأعني بالحكمة (وضع الشيء المناسب، في المكان المناسب، في الوقت المناسب، وبالقدر المناسب).
وواضح من رسالتك أنك تعمل في مجال العمل التربوي مع قسم الطلاب، والحق أنك – كان الله في عونك- جمعت الثقيلين؛ وهما قسم التربية، وقسم الطلاب، ومعلوم أن القسم التربوي من أهم وأدق الأقسام الأفقية في الحركة الإسلامية، حيث هو القسم المعني بتربية الأفراد المنتسبين للحركة على الإسلام فهمًا وعملا وسلوكًا، والقسم الطلابي هو أكثر وأهم الأقسام حساسية؛ لما تتصف به هذه المرحلة العمرية من صفات فسيولوجية وسيكولوجية، تجعلها على درجة من الأهمية والدقة.
والتربية الإسلامية في أبسط تعريفاتها هي عبارة عن عمليتي التخلية والتحلية)؛ والتخلية: هي عملية إخلاء العقل والقلب والفكر مما يشوبهم من النقائص والجهل وسوء الفهم، والرديء من الصفات والشمائل، أما التحلية: فهي تحلية القلب والعقل والفكر بكل ما هو صحيح وجميل من صحة اعتقاد وحسن خلق وطيب سلوك.
كما لا يخفى عليك أن العمل "التربوي" وسط القطاع الطلابي، في الأحياء السكنية، يختلف كمًا وكيفًا، عن العمل "الدعوي" في الوسط الطلابي، في المدارس والمعاهد والجامعات، فلكل منهما أهدافه المختلفة، وأدواته المتباينة، ووسائله المغايرة، وكلما كان العمل على هدى ونور، كلما كان النجاح متوقعًا.
وإذا كان خبراء الزراعة يؤكدون على ضرورة توفر عدة شروط، يلخصونها في المعادلة التالية: (سلامة البذرة + جودة التربة + التوقيت المناسب + توفر مصدر الري + مناسبة الظروف البيئية المحيطة + تعهد النبات بالرعاية = إنبات سليم وصحي + إنتاج غزير)، فإن الأمر لا يختلف بالنسبة للعمل التربوي في قطاع الطلاب، فإذا اختل شرط من الشروط وقع التقصير، وكان الخلل، الذي ربما لا يظهر في حينه، ولكن بعد فوات الأوان.
فإذا كان إخوانك المسئولون في الحي (الخبراء) يرون أن المنطقة (التربة) التي تربي فيها طلابك، هي بيئة غير مناسبة للعمل التربوي، لأسباب أوضحوها لك، وناقشوك فيها، وأنت على وعي بها، ومنها "المضايقة الشديدة" لكم في مسجد الحي، ويقترحون عليك أن تنتقل بهم من هذه المنطقة، إلى منطقة أخرى، حفاظًا على هذه الثلة المؤمنة بالدعوة، وصيانة لهم عن التعرض للفتنة وهم بعد أعواد خضر، لا تقوى على التحمل، فيحسن بك أن تستجيب لإخوانك، وأن تمتثل لإجماعهم.
ولك- أخي الحبيب- في سيرة أول المربين وسيد الدعاة إلى الله، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ المثل والقدوة؛ فعندما وجد أن أرض مكة بيئة غير صالحة للتربية، جمع أصحابه بعيدًا عن أعين قريش، فصحبهم خارج مساكنها، في دار الأرقم بن أبي الأرقم، ليؤسس لهم أول معهد للتربية الدعوية، الذي تخرجت منه الفئة المؤمنة الأولى، جيل النصر المنشود، الذين قام على الإسلام على أكتافهم، بفضل ثباتهم، وصبرهم، وتضحيتهم.
وفي مرحلة أخرى؛ وبعد 13 سنة أمضاها النبي في مكة؛ أحب بلاد الله إلى قلبه، لما وجد النبي أن مكة كلها لم تعد أرضًا صالحة لإقامة الدعوة أو الدولة، فأذن له ربه في الهجرة من مكة إلى المدينة، فهاجر بأصحابه، حفاظًا عليهم، من الصدام مع دولة الكفر في مكة، وعندما وطأ بقدمه الشريفة أرض المدينة؛ جهز لهم ما يحفظ عليهم دينهم؛ فآخى بين المهاجرين والمهاجرين، ثم آخى بين الأنصار والأنصار، ثم عقد المؤاخاة الكبرى بين المهاجرين والأنصار، ثم بنى لهم المسجد، ليكون محضن التربية الإسلامية لنواة الدولة الإسلامية الأولى.
ولما قويت شوكتهم، واشتد عودهم، وحان وقت الفتح، أذن الله لرسوله بالعودة إلى مكة فاتحًا منتصرًا، قال تعالى: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا * وَيَنصُرَكَ اللهُ نَصْرًا عَزِيزًا) [الفتح/ 1-3].
والخلاصة: أنني أرى في قرار إخوانك المسئولين بنقل محضن التربية لهؤلاء الطلاب، من المنطقة غير المناسبة، إلى منطقة أخرى أكثر مناسبة، ومن المسجد الذي تتعرضون فيه للمضايقات، إلى مسجد آخر أكثر أمانًا وراحة، هو قرار صائب، بإذن الله، ستجنون ثماره خيرًا كثيرًا إن صدقت النية، وحسن القصد، فكن على قدر المسئولية، التي اختارك لها الله عز وجل، على أيدي إخوانك، وكن حريصًا على طلابك أشد من حرصك على نفسك، واصبر وما صبرك إلا بالله.
وختاما؛
نسأل الله تعالى أن يوفقك لما يحب ويرضى، وأن يفقهك في دينك، وأن يعينك على طاعته، وأن يصرف عنك معصيته، وان يرزقك رضاه والجنة، وأن يعيذك من سخطه والنار، وأن يهدينا وإياك إلى الخير، وان يستخدمنا ولا يستبدلنا، وأن يجعلنا وإياك ممن اصطافهم لدعوته، وأن يصرف عنا وعنك شياطين الإنس والجن إنه سبحانه خير مأمول.
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.