التربية على التفكر

 عندما يكون عندك ضيف ويدخل عليك ابنك وهو يحمل كوبين من الحليب على صينية مستوية ذات مقابض معدنية؛ هل تأملت حينها شكل اللبن وهو يهتز في الأكواب؟ فضلاً عن مراقبة ذرات اللبن المتناثرة على الصينية جراء عملية الاهتزاز؟، وهل تأملت اللبن المسكوب حال تعثر قدم ابنك في سجادة الصالون؟ هل سألت نفسك حينها وأشركت معك ابنك وضيفك في الإجابة على هذا السؤال العقدي التربوي وهو: لقد اختل اتزان ابني فاهتز اللبن وانسكب فماذا لو اهتزت الأرض اهتزازاً خارجياً مختلفاً عن الزلازل المعلومة؟ سيحدث الدمار وستأكل حينها مياه البحار والمحيطات الأخضر واليابس وسيهلك الحرث والنسل؟ فلماذا إذن لا تهتز الأرض وهي تدور في هذا الكون الفسيح؟، ولماذا لا تسقط عليها السماء المرفوعة بلا أعمدة؟.
 
إنها نعمة الاتزان التي أنعم الله علينا بها يقول تعالى " أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ" (الحج الاية 65).
 فهل تفكرنا في هذه النعمة ومصيرنا إذا أذهبها الله عنا؟ فسبحان خالق السموات والأرض.
 
 إنه موقف بسيط يقع فيه أبناؤنا كل يوم ويمكننا استثماره تربوياً لإحياء عبادة التفكر في نفوسنا وحياتنا اليومية.
 
فالتفكر في خلق الله عبادة روحية وفكرية وبصرية ترفع شأن العبد وتقربه من الله سبحانه وتعالى، وهي عبادة فيها نوع من القصور عند كثير من المسلمين في واقعنا المعاصر، على الرغم من تشديد القرآن الكريم عليها في مواضع عدة.
يقول تعالى:" وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" (الجاثية الآية 13).
 
ويقول سبحانه: " اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ* وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ* وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ" (الرعد – الآيات 2-4). وغير ذلك كثير من الآيات التي تحثنا على التدبر والتفكر في آيات الله وعظمته وقدرته.
 
 يقول ابن القيم رحمه الله تعالى في الفوائد " الله سبحانه وتعالى يدعو عباده في القرآن إلى معرفته من طريقين: أحدهما؛ النظر في مفعولاته، والثاني؛ التفكر في آياته وتدبرها، فتلك آياته المشهودة، وهذه آياته المسموعة المعقولة ".
 
من هنا سنحاول طرح بعض الأفكار التربوية التي يمكن من خلالها تضمين
عبادة التفكر في خلق الله داخل المكون التربوي للآباء والقائمون على العمليات التربوية في المحاضن التربوية المتعددة، ولكن من قبل ذلك ابتداءً لابد للآباء والقائمون على العمليات التربوية في المجتمع أن تكون عبادة التفكر في خلق الله حاضرة عندهم بالأساس.
 
أفكار عملية لإثراء عبادة التفكر في خلق الله تربوياً:
1)    أن يصطحب الآباء أبنائهم في رحلات لأماكن تتجلى فيها عظمة الخالق سبحانه وتعالى، ويأخذ الآباء مع الأبناء في تأمل المناظر الخلابة، ويغرس الأب في ابنه روعة الخالق سبحانه وتعالى وعظمته في إبداعه لتلك المخلوقات، ويمكن في هذا الصدد زيارة الأماكن العلمية المتاح فيها استخدام ما يعرف بالقبة السماوية والتلسكوبات الفلكية لمشاهدة الأجرام السماوية من خلالها، واستثارة ذهن الإبن بعظمة خالق هذا الكون الذي يشاهد أجزاء إعجازية منه.
 
2)    استثمار تجمع الأب مع أبنائه على مائدة الطعام وما يحضره لهم من أطعمة، في دعوتهم إلى التفكر في النعم الموجودة على المائدة والمراحل الإعدادية التي مرت بها لتصل إليهم هكذا، ليعيد الأب بذلك النعمة إلى صانعها ورازقها الله سبحانه وتعالى. يقول تعالى "فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ* أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا* ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا* فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا* وَعِنَبًا وَقَضْبًا* وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا* وَحَدَائِقَ غُلْبًا* وَفَاكِهَةً وَأَبًّا* مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ" ( عبس الآيات 24-32).
 
 
3)    استثمار السفريات وفترة السفر بوسائل المواصلات المتعددة والتي يصطحب فيها الأب ابنه في تأمل ما يقابلهم من بدائع الخالق جل وعلا، وهذا أيضاً يؤكد على استثمار المواقف والمناسبات التي تجمع الأب مع ابنه ويمكن توظيفها في ذات إطار عبادة التفكر في خلق الله.
 
4)    عمل جناح في مكتبة البيت يكون مختصاً ببدائع الخالق جل وعلا يجمع فيه الأب كتب الإعجاز العلمي والأفلام العلمية المصورة التي تتناول إعجاز الخالق في شتى المخلوقات، مع الحرص على شراء الألبومات المصورة الإبداعية والتي تتجلى عظمة الخالق من خلال الصور الموجودة بتلك الألبومات، وكذا شراء كتب الأطفال المرتبطة بالإعجاز العلمي. وحرص الأب على تخصيص جزء من وقته يجمع فيه أفراد أسرته يقرأون ويطالعون فيها تلك المحتويات الإعجازية ويتدارسونها فيما بينهم.
 
 
5)    عمل حلقات قرآنية كل اسبوع يقرأ فيها الأب مع أبنائه القرآن الكريم وتدريبهم على تدبر آيات القرآن، والوقوف والتباحث في الآيات الإعجازية والعلمية منها، وذلك لتدريب الذهن على التفكر والتدبر أثناء قراءة القرآن.
 
6)    تخصيص ساعة كل أسبوع يجمع فيها الأب أفراد الأسرة لمشاهدة فيلم علمي عن إعجاز الخالق جل وعلا مع جعل الجلسة المشتركة بعد هذه الساعة لفتح حلقة نقاشية يتم فيها طرح التساؤلات التي وردت في أذهان أفراد الأسرة أثناء مشاهدة الفيلم، وكذا النقاط االتي استرعت انتباههم في هذا الفيلم مع وضع ذكر الله والتسبيح بعظمته كمظلة عامة لتلك الجلسة. وهذه الجلسة وما يتبعها من نقاش ليست من الصعوبة الوقتية بمكان لأنه في حالة مباريات كرة القدم تستعد أسر كثيرة قبل المباراة بنصف ساعة يضاف إليها ساعتين عمر المباراة بل وتمتد الجلسة لما يقرب من ساعة أخرى بعد المباراة لمناقشة آراء الأسرة في آداء اللاعبين، فأيهما أحق بالوقت اللعب ومناقشة اللهو أم التأمل والتعبد بالتفكر في خلق الله؟  
 
 
7)    قل أن يندر بيت الآن من الكمبيوتر والإنترنت وهناك الكثير من المواقع العلمية ومواقع الاعجاز العلمي؛ لذا يمكن استثمار تلك التقنية في تكليف الأبناء بعمل أبحاث بسيطة عن أي فكرة تأملية ترد إلى ذهن الأب مثل الإعجاز في طبيعة عمل القلب في جسم الإنسان مثلاً أو ما شابه ذلك على أن يخصص الأب مكافأة عينية للإبن جراء هذا العمل.
 
8)    عمل بنك أرشيفي تدويني للأفكار والمدارسات التأملية والإعجازية التي تدارستها الأسرة فيما بينها، ويسند التدوين لكل فرد من أفراد الأسرة بالتناوب، ليكون ذلك محفزاً للأسرة على الاستمرار في تفكرها ومراجعة ما حصلوه من معارف إعجازية.
 
 
9)    بالنسبة لجمعيات تحفيظ القرآن الكريم يمكنها أن تضمن في برامجها ساعات تأملية تربي فيها طلابها على عبادة التفكر في خلق الله، وتدربهم على التدبر والتأمل في آيات الله.
 
10)      بالنسبة للقائمين على العملية التعليمية في العالم الإسلامي آن الأوان لإدخال مادة تعليمية إجبارية على الطلاب تحمل عنوان مادة "التفكر في خلق الله" يكون هدفها تعبدي بتفكر الطلاب في خلق الله، وتربوي بصناعة جيل من المسلمين لديه ملكات التأمل في بدائع الخالق جل وعلا. ويمكن إثراء تلك المادة بكافة المعينات السمعية والبصرية المرتبطة بالإعجاز العلمي، مع عمل تنسيقات مع الهيئات الفلكية للاستفادة بما عندها من تلسكوبات كاشفة للكون الخارجي وذلك لتأمل عظمة الخالق سبحانه وتعالى.
 
 
11)      يمكن للمعلمين كلٍ بحسب تخصصه أن يطعموا حصصهم الدراسية باستثارة الطلاب بالتفكر في عظمة الخالق وذلك في مواطن الإعجاز التي يمر عليها المعلم أثناء شرحه للمقررات الدراسية العلمية.
 
12)      ضرورة وجود جناح خاص بالإعجاز العلمي والمواد العلمية المرتبطة بالتفكر في خلق الله وذلك في مكتبة المدرسة والجامعة، ليتمكن الطلاب من الاطلاع عليها أثناء ترددهم على المكتبة.
 
 
13)      أن يحرص خطباء المساجد على تضمين عبادة التفكر ضمن خطبهم ودروسهم العلمية بالمسجد، وهذا يتطلب منهم مجهودات بحثية وعلمية ليثروا كلماتهم الدعوية بالأدلة العلمية والإعجازية التي تثير انتباه وتفكير رواد المسجد.
 
14)       تشجيع الجمعيات الخيرية ورجال الأعمال على إنشاء مكتبات عامة أو ملحقة بالجمعيات تضم المواد الإعجازية المقروءة منها والمرئية والتي يكون هدفها نشر عبادة التفكر في خلق الله داخل المجتمعات المحلية.
 
 
15)      العمل على تبسيط طباعة آيات وصور الإعجاز العلمي في مطويات صغيرة تكون في متناول الجميع، وسهلة الإهداء والانتشار، ليسرح ذهن قارئها تفكراً في عظمة الخالق جل وعلا.
 
16)      تكثيف برامج الإعجاز العلمي والحث على عبادة التفكر في خلق الله في القنوات الفضائية الإسلامية.
 
وبعد فهذه بعض الومضات التربوية الهادفة إلى تكثيف الاهتمام التربوي بعبادة التفكر في خلق الله وتأمل بدائع صنعه جل وعلى، وهي مقترحات قابلة للإضافة أو التعديل عسى الله أن ينفع بها المسلمون في تفكرهم في آلاء الله.