(واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور)
11 ربيع الأول 1430

النعم تستوجب شكراً، والكفران مؤذن بالعقوبة، ومع ذلك فإن حلم الرب على عباده عظيم، {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [النحل:61]، {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً} (فاطر:45)، ولمكان النعم وما تستوجبه بدء موسى عليه السلام موعظته لبني إسرائيل التي يحضهم فيها على قتال الجبارين مذكراً لهم بنعم ربهم: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة:20]، ونعم الله على بني إسرائيل كثيرة تعداها ههنا وما قيل فيها يطيل المقام ويخرج به عن مقصوده، لكن منها على سبيل الاختصار والسرد: إنجاؤهم من فرعون الذي كان يستعبدهم، فملكهم بعد ذلك أمرهم، وبات أحدهم كالملك آمناً في سربه عنده زوجه وخادمه وقوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها، ولهذا قال في آية المائدة: (وجعلكم ملوكاً)، وقد فسرت بنحو ما سلف، ومن نعم الله على بني إسرائيل منّه عليهم بالعفو بعد العفو على عظم وكثرة ما أحدثوه، ومنها تفجير الحجر ينابيع لهم، ومنها إكرامهم بالمن والسلوى، ومنها أن جعل فيهم أنبياء ورسلاً، ومنها تفضيلهم على غيرهم من العالمين، قيل بالنعم، وقيل عالمي زمانهم، ومن أعظم ذلك إنزال الألواح وفي نسختها هدى ورحمة، وإكرامهم بأفضل الشرائع في زمانهم وهي شريعة التوراة،.. إلى غير ذلك من النعم المشتركة بينهم وبين الخلائق، والنعم الخاصة بهم الدينية والدنيوية.

 

فلما كفر قوم موسى النعمة ومردوا على العصيان عاقبهم الله بسلب بعضها، وبالعقوبات الخاصة، كعقوبة السامري، وكذلك العقوبات العامة كالتيه أربعين سنة.
فمن قبيح صنيعهم أن الله سبحانه وتعالى لمّا أنجاهم من فرعون وسلطانه وظلمه، وفرق بهم البحر، وأراهم الآيات والعجائب، ونصرهم، وآواهم، وأعزهم، وآتاهم ما لم يؤت أحداً من العالمين، ثم أمرهم أن يدخلوا القرية التي كتب الله لهم، وفي ضمن هذا بشارتهم بأنهم منصورون ومفتوح لهم، وأن تلك القرية لهم، فأبوا طاعته وامتثال أمره، وقابلوا هذا الأمر والبشارة بقولهم: (اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون)! وتأمل: تلطف نبي الله تعالى موسى عليه السلام بهم، وحسن خطابه لهم، وتذكيرهم بنعم الله عليهم، وبشارتهم بوعد الله لهم؛ بأن القرية مكتوبة لهم، ونهيهم عن معصيته، بارتدادهم على أدبارهم، وأنهم إن عصوا أمره ولم يمتثلوا انقلبوا خاسرين، فجمع لهم بين الأمر والنهى، والبشارة والنذارة، والترغيب والترهيب، والتذكير بالنعم السالفة، فقابلوه أقبح المقابلة، فعارضوا أمر الله تعالى بقولهم: (يا موسى إن فيها قوما جبارين)، فلم يوقروا رسول الله وكليمه حتى نادوه باسمه! ولم يقولوا: يا نبى الله، وقالوا: إن فيها قوما جبارين، ونسوا قدرة جبار السموات والأرض الذي يذل الجبابرة لأهل طاعته، وكان خوفهم من أولئك الجبارين الذين نواصيهم بيد الله أعظم من خوفهم من الجبار الأعلى سبحانه، وكانوا أشد رهبة في صدورهم منه، ثم صرحوا بالمعصية والامتناع من الطاعة فقالوا: (إنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها)، فأكدوا معصيتهم بأنواع من التأكيد، تمهيداً لعذر العصيان بقولهم إن فيها قوما جبارين.

 

والثاني : تصريحهم بأنهم غير مطيعين، وصدروا الجملة بحرف التأكيد وهو إن ثم حققوا النفي بأداة لن الدالة على نفي المستقبل أي لا ندخلها الآن ولا في المستقبل، ثم علقوا دخولها بشرط خروج الجبارين منها، فقال لهم رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما بطاعته والانقياد إلى أمره من الذين يخافون الله هذا قول الأكثرين وهو الصحيح: ( ادخلوا عليهم الباب) أي باب القرية فاهجموا عليهم فإنهم قد ملئوا منكم رعباً، فإذا دخلتموه فإنكم غالبون، ثم أرشداهم إلى ما يحقق النصر والغلبة لهم وهو التوكل. فما كان جواب القوم إلاّ أن قالوا: (يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ماداموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون)، فسبحان من عظم حلمه حيث يقابل أمره بمثل هذه المقابلة، ويواجه رسوله بمثل هذا الخطاب، وهو يحلم عنهم ولا يعاجلهم بالعقوبة، بل وسعهم حلمه وكرمه وكان أقصى ما عاقبهم به: أن رددهم في برية التيه أربعين عاماً(1)...

 

وهذا من شؤم ترك شكر النعم، فلو وفقوا لدخول القرية لكانوا ملوكاً، ولكن كفروا النعمة وعصوا أمر ربهم، فعاقبهم بما هم أهل له، {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7]، وهذا في حق من خصهم الله بالنعم من بين الأقوام آكد، فإن المعصية من فئة قد تزيد قبحاً وتستوجب عقوبة ما كانت لتستوجبها لو صدرت من فئة أخرى، ولهذا خص بالمقت والغضب في حديث أبي هريرة ثلاثة دون الناس على ذنوب يقع فيها كثير من الناس، فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر"(2)، فخص هؤلاء بهذه العقوبة لضعف الداعي عندهم إلى الذنوب المذكورة بخلاف غيرهم من الناس الذين يقعون فيها.

 

وكذلك من المواطن التي يزيد قبح المعصية فيها معصية من أنعم الله عليه بنعم الدين والدنيا، وقد تستوجب له تلك المعصية ما لا تستوجبه لغيره، فقوم موسى في الجملة خير من الجبارين المشركين، بل إن في قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون، بل كان فيهم يوشع ابن نون نبي الله، فتى موسى الذي لقي الخضر معه قبل التيه، وفيهم من أمثال ذينك الرجلين اللذَيْنِ قال الله مخبراً عنهما: {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23]، لكن لمّا أتى جمهورهم من الجرم والمخالفة ما لا يليق بما آتاهم الله من النعم الدينية والدنيوية استحقوا من العقوبة ما لم يستحقه الجبارون.

 

فالواجب علينا –ولاسيما في هذه البلاد التي أنعم الله عليها بنعم الدنيا والدين- أن نعتبر بأخبار الأمم الماضين، وأن نحذر سلوك طريق المغضوب عليهم والضالين، وأن نأخذ على أيدي السفهاء الذين إن تركناهم وكفرِهم نعمة الله كانت العاقبة أن نحل دار البوار، وأن يلحقنا الخسار في الدنيا والآخرة، أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ} [إبراهيم: 28-29].

_____________
(1)    من إغاثة اللهفان 2/214 وما قبلها بتصرف واختصار يسير.
(2)    صحيح مسلم (107).