أنت هنا

القوى الإسلامية وإمكانية اتخاذ موقف بشأن التقسيم والمحاكمة
8 ربيع الأول 1430
السودان بلد مترامي الأطراف، متعدد الثقافات والأعراق والطبائع البيئية والمناخية، منفتح الحدود على عدة دول عربية وإفريقية، ويبدو أن هذا الاتساع والتعدد ألقى بظلاله على الإسلاميين في السودان، فطبائعهم شتى، وهم أصناف ساعد على تعددها الانفتاح الفكري الزائد عن حده، والذي كان من عاقبته أنك لا تكاد تجد مذهباً منتسباً للإسلام ينشط تابعوه للدعوة إليه اليوم إلاّ وفي أهل السودان من تأثر به أو أخذ منه، يقل عددهم ويكثر ويتباين أخذهم بحسب ظهور فساد المذهب في الغالب، وهذه نتيجة متوقعة في بلد متنوع متسع قل فيه العلماء وكثرت فيه الأحزاب والطوائف البعيدة عن أضواء الشريعة. فلا تعجب مثلاً إن لقيت قاديانياً في السودان -وهم بحمد الله نفر قليل-، ولا تعجب إن لقيت رافضياً، ولا تعجب إن لقيت من يزعم أنه قرآني، متكأ على أريكته يقول: بيني وبينكم كتاب الله، ما وجدنا فيه من حلال حللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه. لا تعجب فكل هؤلاء لقيتُ!
أما الصوفية فضاربة جذورها بعمق في أرجاء البلاد، ولعل منتسبو التصوف هم الأكثرون عدداً من بين أصناف المنتسبين، ويغلب على الصوفية في السودان قسمان، وبينهم نفر من قسمين آخرين، فالغالبة البدعية والقبورية، وأما النفر ففي قسمي الفلسفية الإلحادية والزهدية الشرعية، ويغلب على هؤلاء إجمالاً اعتقاد متكلمي أهل السنة وبالأخص أبي الحسن الأشعري، وفي القسم الأخير طائفة من أهل السنة.
وأما الجماعات والمجموعات والأفراد الداعية لمنهاج السلف الصالح وطريق أهل السنة فهم –بحمد الله كثر- غير أن المناخ العام وأدواء الأمم قد سرت إليهم ففرقتهم، ولم يخل هؤلاء مِن تأثرٍ بما تأثر به غيرهم، فبعضهم تأثر بفكر الخوارج –وهم قلة- وبعضهم تأثر بفكر المرجئة –وهم قلة- ومن أهل السنة من تأثر بمبتدعة آخرين، وجمهورهم معتدل مستقيم، وابن آدم يخطئ ويصيب، ولو تُرِك التعصب للأسماء أشخاصاً كانوا أو مجموعات أو جماعات، واعتنى الجميع بمزيد تبصر في علم الشريعة لاستقام أمرهم جداً، ولقل تصدعهم وتشظيهم كثيراً.
والغالب على الجماعات الإسلامية في السودان –وهي كثيرة- التأثر بما شاع في الساحة وكثر من المذاهب، غير أن البصيرة الشرعية والثقافة الإسلامية لمنظريها تعصم كثيراً منهم عن الانجراف نحو التيارات بينة الفساد، وإن تأثرت بعض شخصياتها المعروفة ببعض المذاهب الضالة كمذهب الرافضة، وهذه الجماعات أو المجموعات يمكن أن تصنف في قسمين: فقسم همه الدعوة والإصلاح على مستوى العامة، وقسم همه الإصلاح السياسي.
وأما الأحزاب السياسية الإسلامية فأبرزها حزب المؤتمر الوطني، الحاكم مع شريكه العلماني الحركة الشعبية لتحرير السودان، عدو الأمس قبل اتفاق نيفاشا، وتوجد أحزاب أخرى إسلامية لا تتعدى عدد أصابع اليدين من بين نحو 118 حزباً تتضمنهم سجلات مجلس الأحزاب! مع أن جمهور غير الإسلاميين لا يضاهي جمهور الإسلاميين، فإن عامة المسلمين من أهل السودان يحبون الدين وأهله، ويميلون إليهم، غير أن ميولهم تتباين بحسب تباين أطياف الإسلاميين واختلافهم.
والناظر في هذا الوضع قد لا تظهر له بارقة أمل تبشر بالقدرة على اتخاذ موقف داخلي صلب بشأن التقسيم أو المحاكمة، ولا سيما مع الاختلاف الطافح في السطح بين الإسلاميين في القضيتين، دعك من غير الإسلاميين.
أما التقسيم فقد قامت أحزاب يترأسها بعض أعضاء المؤتمر الوطني الفعالين سابقاً تنادي بفصل الجنوب والتخلص منه وترى أنه جر على الشمال ما لا يساوي قيمة الاحتفاظ به.
وأما محاكمة البشير فبعض أصحاب الأمس من نُظّار الإسلاميين يرحب بها اليوم.. وكثير من (الدراويش) لا تعنيهم.
غير أن جمهور الإسلاميين في السودان متفقون على خطر التقسيم ورفض الإذعان لقرار المحكمة الدولية إذا صدر باعتقال البشير وإن تفاوت اكتراثهم بالقضية، وهؤلاء قادرون على اتخاذ موقف من الأمرين، يعلن الرفض لهما، ويحشد الجماهير للتنديد بهما، ولكن هل هم قادرون على اتخاذ خطوات عملية والتعاون على تشكيل فرق للعمل المشترك بعيد الأمد؟ إن استمعوا لصوت الشرع والعقل فاجتمعوا على حق مشترك بينهم فنعم... وإلاّ فلا.
وينبغي أن نعي أن القوى الإسلامية لن يكون لها كبير أثر في استصدار قرار المحكمة أو منعه، ولاسيما في هذا الوقت المتأخر، ولكن لردة فعلها وما تعلنه أثره على تبعات القرار، وذلك لأن الملف سيحال غالباً إلى مجلس الأمن بعد الرفض المتوقع له من قبل الحكومة السودانية، ومجلس الأمن سوف ينظر في الطريقة التي يرغم بها السودان على الإذعان، بما في ذلك التدخل وفقاً للبند السابع من ميثاق الأمم المتحدة، غير أن الساحة الداخلية قد يكون لها أكبر الأثر على قرار مجلس الأمن، وعلى تنفيذه وتأثيره إن هو صدر، وكذلك على حسم الوضع داخل السودان.
وقد نجح حزب واحد وهو الحركة الإسلامية لما كان مجتمع الكلمة في إقامة دولة تعارضها قوى الأحزاب الكبرى، ونجح في التقدم نحو قرى الجنوب وربوعه المضطربة التي يدعم مقاتليها الغرب كله، وأذنابه في المنطقة، فكيف لا تنجح القوى الإسلامية الفاعلة إن اجتمعت كلمتها وتضافرت جهودها وفَعَّلْت قواعدها وهم أضعاف الحركة الإسلامية؟ ولن يغلب اثني عشر ألف من قلة!
وهل تفعل ذلك؟
الواقع يقتضي ذلك.. وفي الوعي به تباين من قبل الإسلاميين، غير أن ثمة ثلة تدركه، تقابلها شرذمة تجحده! كما أن ثمة ضعفاً في إشراك الإسلاميين الآخرين في الحكم واتخاذ القرار من قبل حزب المؤتمر الوطني الحاكم.
ويبقى التعويل على جهود العقلاء في الإصلاح وجمع الكلمة وتهذيب الصفوف، بعد رحمة الله عز وجل، التي قصر كثير من الناس في التعرض لأسبابها.. ولعل الأزمة تفتح باباً للأوبة.