أنت هنا

محاكمة البشير.. هل الغرب غبي أكثر؟!
8 ربيع الأول 1430
طلعت رميح
لعبة محاكمة الرئيس السودانى عمر البشير امام محكمة الجنايات الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب، ما تزال فى وضع التفاعل، يبدو ان قادة سودانيين اخرين، قد وضعوا على قائمة الاستهداف، حسبما ظهر مؤخرا من احد شرائط الفيديو التى جرى " فبركتها " وتمريرها الى الراى العام العربى والدولى، وخلاله يظهر بعض الاشخاص باسمائهم الاولى ( فقط )، بصفات متعددة، بعضهم يدعى انه كان فى الجيش السودانى وبعضهم يتحدث بلغة اهل دارفور، وكلهم يتهمون الرئيس ابشير ونائبه على عثمان محمد طه واسماء اخرى من قيادات الحكم الراهن، بذات الاتهامات التى يتقول بها المدعى العام فى محكمة الجنايات الدولية.
واللافت فى لعبة تلك المحاكمة، انها تحولت على نحو صريح الى نمط من الابتزاز السياسى للحكم الراهن فى السودان، ليس فقط لان مواقف الدول الغربية قد اجمعت فى مرحلة سابقة على القبول بالمساومة بين تقديم البشير لمحكمة الجنايات الدولية او تقديم مسئولين سودانين اخرين للمحاكمة من المطلوبين، او بين تقديم حكم السودان لتنازلات سياسية او المعضى قدما فى لعبة لمحاكمة.
كما اللافت ان مواقف الدول العربية و الافريقية قد اخذت هى الاخرى بمنطق المساومة، حين قبلت من حيث المبدا فكرة محاكمة البشير من خلال تركيزها على موضوعة تاجيل مجلس الامن اصدارقرار بتاجيل التحرك لمحاكمة الرئيس " رسميا " من قبل محكمة الجنايات، او حين سعت من خلال مجلس الامن الدولى، الى تاجيل اصدار مذكرة اتهام، وهو ما فتح ثغرة خطيرة تقدمت من خلالها القوى التى تطلب راس السودان -لا راس البشير - اذ الجوهر الحقيقى لهذا الموقف،هو القبول بفكرة المحاكمة من حيث المبدا مع الدخول فى الاعيب التاجيل والتاخير، ربما وفق منطق اصبر على الجار السئ حتى يموت او يرحل، او وفق منطق حجا وحماره و المراهنة على الموت. لكن، اليس غريبا ان يضع الغرب نفسه فى هذا المازق؟ اذ كيف يلهث نحو محاكمة البشير، تحت زعم قصاص " المجتمع الدولى " لجرائم غير مؤكدة، وربما جرائم مصطنعة و مفبركة، بينما العالم اجمع شاهد على جرائم الصهيونية المؤكدة و الموثقة خلال محرقة غزة، دون حراك او احتجاج من ذات الدول التى تصر على محاكمة البشير !
وكيف ان العالم اجمع قد شاهد باعينه ما جرى فى العراق و افغانستان من احتلال للارض وقتل للملايين،  دون تحرك رسمى رافض او محتج او مطالب بمحاكمة مجرى حرب اعترفوا بجرمهم – كما فعل بوش حين اعترف بغزوه العراق بناءا على معلومات خاطئة من جهاز مخابرات بلده – بما يجعل الراى العام الدولى فى وضع المندد و المستنكر لمحاكمة البشير واتهامه، ان لم يكن مطالبا بمحاكمة بوش و بلير وكل قادة الكيان الصهيونى المجرمين.
هل وصل الغرب الى هذه الدرجة من الغباء الزائد؟ ام ان عالم السياسة يخضع لموازين القوة لا اكثر ولا اقل، وان اساليب القوة الناعمة الظاهرة تلك، ليست الا ترجمة لموازين القوة الصلبة، التى تسمح للدول التى ترتكب الجرائم،ان تحاكم الضحايا فى ذات الوقت، بفعل ما تمتلكه من قوة عسكرية قادرة على فرض ما تريد دون استخدامها !
ما اللعبــة؟
فى لعبة محاكمة الرئيس السودانى عمر البشير، نحن امام السابقة الاولى، التى تجرى خلالها مطالبة غربية بمحاكمة رئيس – اى رئيس – بينما هو لا يزال فى سدة الحكم،كما نحن امام اول قضية تنظرها المحكمة الجنائية الدولية –وكانها تشكلت خصيصا لنا –اذ كانت محاكمات يوغسلافيا ورواندا وبوروندى -بل حتى محاكمة الحريرى – هى محاكمات خاصة او محاكمات تجرى امام محاكم دولية خاصة تشكل كلا منها وفق حالة خاصة،والحق ان الامر يعنى ان الدول الغربية فى تلك المحاكمة تقول و بصراحة – و الصحيح ببجاحة – انها لم تعد تقيم وزنا للعالم العربى كله، ولم يعد يعنيها الا تحقيق اهدافها دون خجل او مواربة، اذ المحاكمة المزمع اجرائها تشير بوضوح الى ان " توجيه هذه الضربة المباشرة للرئيس البشير الان، لا يعنى سوى اطاحة جهاز الدولة السودانى، وتحطيم قدراته و تحويله الى حالة هلامية وتفكيك المجتمع السودانى، حيث المستهدف ليس الرئيس بشخصه ودوره فى الحكم، ولكن ومن الاصل، تاتى خطوة المحاكمة وقد صممت على مقاس الاهداف الغربية بالارتباط وفق دراسة محددة لطبيعة واضاع الحكم الراهن السودان. رئيس حركة التمرد فى السودان ( الحركة العبية لتحرير السودان ) سيليلفا كير، يجلس فى موقع نائب الرئيس فى الحكم السودانى فى انتظار انقلاب الاوضاع, و القبض على الرئيس البشير و محاكمتة انما تعنى توجيه رسالة الى كل اجهزة الدولة السودانية بان يد الغرب ستطول كل وطنى عربى مسلم فى هذا البلد, بما يشيع حالة من الخوف و الفوضى وعدم القدرة ( من كل اجهزة الدولة ) على حمل تحديات بقاء السودان موحدا، كما ان محاصرة الرئيس البشير، حتى محاكمته، وهو فى ظل موقعه الرئاسى فى السودان، انما يعنى اعطاء كل المبررات لحركات التمرد فى دارفور، للتخلى عن كل الاتفاقات التى وقعت مع الحكم فى السودان، لوقف القتال و المشاركة فى السلطة السياسية القائمة،كما التشدد فى الاجراءات الجارية ضد الرئيس البشير يستهدف منع مختلف الاطراف فى دارفور من توقيع اتفاقات مع الحكم الراهن، على اعتبار ان مثل تلك الاتفاقيات لا يمكن توقيعها مع حكم غير مستقر، وكذا يمكن الذهاب الى ان هذه الاجراءات تستهدف افساح الطريق نحو حالة جديدة من الفوضى فى السودان، وتقديما لمبررات اضافية لعدم الوصول بالاتفاق بين الحكومة المركزية ومتمردى الجنوب الى نهايتة، ولتفعيل عملية الانفصال عن جسد الدولة السودانية تحت ظلال من الفوضى، و كذا هو اشارة لانحاء اخرى فى السودان للتحرك ضد الحكم المركزى، بحجة عدم مشروعية الرئيس !
وهكذا فقد جرى تصميم لعبة محاصرة الموقع الرئاسى فى السودان، بالارتباط مع اهمية رئاسة الدولة فى السودان، مع طبيعة الصراعات و التفلت فى عدد من الاقاليم.. الخ.
لم اللعبة.. هكذا؟
هنا يبدو السؤال المنطقى – وربما الجوهرى ايضا – هو لماذا جرت وتجرى اللعبة مع السودان على هذا النحو؟ و لماذا لم تجر مثلا على غرار النمط العراقى و الافغانى او الصومالى او حتى الليبى؟ !
وفى عجالة، فالامر لم يجر على النحو الذى جرى فى العراق او افغانستان، لان السودان بلد ذو جغرافية متسعة و متعددة، بما يتطلب حشد كل قوات الاطلنطى, لكى تجرى عملية احتلال وسيطرة على ارجاء هذا البلد القارة متنوع التضاريس و المجموعات العرقية، والذى هو بمثابة متاهة حقيقة لاى قوات غزو.
وكذلك الامر لم يجر على النمط الصومالى ( احتلال من دولة مجاورة ) لان لا احد من دول الجوار قادر على ذلك، حتى لو حشد كل شعبه فى جيش. لا احد من دول الجوار يستطيع الانتشار فى ارجاء السودان. اما لماذا لم يحدث وفق النموذج الليبى، فلان السودان بلد لا يستطيع حتى " الحكم " السيطرة على قرار موحد فى مختلف ارجائه وفق نمط تسلطى شامل، اذ جرت فى السودان عدة ثورات جماهيرية فى الفترة بين الخمسينيات و حتى الثمانينات،ليعلن اهل السودان انهم الشعب العربى الذى تفرد على هذا النحو فى التاريخ المعاصر. هذا بالاضافة الى ان طبيعة الفكر الذى يعتنقه النظام و الدولة فى السودان منذ ثورة الانقاذ وحتى الان، يصعب من فكرة التحول من معاداة الغرب الى المولاة او التناغم الشامل،وفق نمط حاد وواضح من التنازلات،لوجود حزب وحركة سياسية فى قلب النظام الحاكم.
لكن كل ذلك لا يقدم الا الاجابة على الجانب السلبى من المعادلة، اى لماذا لم يجر فى السودان ما جرى فى دول اخرى، اما الاجابة عن الجانب الايجابى من المعادلة، اى لماذا يجرى الامر على هذا النحو، فذلك لان تلك هى طريقة القوة الناعمة فى تحقيق ذات الاهداف التى تعجز عن تحقيقها القوة العسكرية الصلبة، و لان الحكم فى السودان قد ابدى " قدرة " على تقديم قدر من التنازلات بما ساهم فى سير الامور فى هذا الطريق، اذ كان الاختبار الاخطر لبدء هذه الخطة ضد الحكم فى السودان، هو ما جرى خلال المفاوضات مع متمردى الجنوب، التى قدم خلالها الحكم تنازلات لم تحدث منذ استقلال السودان وحتى توقيع هذا الاتفاق ( نيفاشا )، الذى منح المتمردين الحق فى الانفصال بجنوب السودان، وهو ما كان له تاثير مباشر فى دارفور، اذ انطلقت اعمال التمرد هناك عقب توقيع الاتفاق مع الجنوب، الذى جاء كاشارة واضحة على ضعف الحكم فى السودان، وامكانية الحصول على مكاسب من خلال استخدام القوة واثارة اعمال الفوضى،من قبل الجماعات والفصائل فى مناطق اخرى. وهنا كان الناقل للفكرة و الحركة و الممول بالمال و السلاح هو الدول الغربية التى كانت وسيطا فى اتفاق الجنوب، و التى قرات اوضاع الحكم على هذا النحو،وصارت تطور هجومها الخارجى،فى تناغم مع تصعيد الاحداث فى الداخل.
وهكذا تغيرت الاوضاع من تدهور الى اخر، حتى صار ممكنا التوجه نحو رئاسة الحكم فى السودان، من خلال محكمة الجنايات الدولية او محكمة السياسات الغربية.
السؤال الاصل
 لكن السؤال الاصل فى كل ما يجرى فى السودان، هو لم وصل " ابناء " السودان الى ما نراه الان من تقاتل وصراع مزمن، بما سمح للدول الغربية بان تفعل تلك اللعبة،الان الى درجة اتهام الرئيس بارتكاب جرائم حرب ضد ابناء شعبه، اعتمادا على دور فاعل على الارض لمجموعات واحزاب و قوى و فصائل فى جنوب السودان وغربه؟!
ان بالامكان ادراك طبيعة الاستراتيجية الغربية – تلك – القائمة على انتزاع التنازلات بشكل تدريجى من الحكم, مع تطوير الهجوم رويدا رويدا، بالارتباط مع تطوير او تفجير الاحداث فى داخل السودان.
كما بالامكان القول، ان الاهداف الغربية باتت واضحة بلا لبس او ابهام, اذ المستهدف تفكيك السودان، وتشكيل كيانات ضعيفة بديلا من الحكم الراهن، لافقاد السودان قدرته على التاثير و المواجهة للمشاريع الغربية فى تلك المنطقة من افريقيا، ولمنع التواصل العربى و الاسلامى بين المسلمين و العرب فى شمال افريقيا ومنطقة وسط افريقيا – محط اهتمام الاستعمار الغربى الان – و الاستيلاء على ثروات السودان الكامنة فى ارضه البكر. اما لماذا وصل السودان الى ما وصل عليه بعض ابناءه،من حالة الفكك والتفلت والصراع والتقاتل، فلذلك قصص طويلة معقدة، يمكن اجمالها، فى طبيعة التعدد و التنوع الشديد الخصوصية فى التركيبة المجتمعية للسودان على المستويات العرقية والثقافية، بما عوق اندماج اهل السودان -كما هو الحال فى دول اخرى - فى مجتمع موحد الهوية و الاهداف و المصالح.
كما يمكن القول، بان الحكومات المتعاقبة على السودان منذ استقلاله مطلع عام 1956، لم تكن تملك رؤى واضحة حول طبيعة السودان ومشكلاته، كما هى سارت بلا خطط حقيقية مدروسة لعلاج الاوضاع التى خلفها الاستعمار البريطانى فى السودان، ولذلك هى اعتمدت اساليب العنف لا البناء فى محاولة اعادة ترتيب العلاقات الداخلية بين مكونات هذا البلد،او فى محاولة صهر المجتمع السودانى فى هوية موحدة.
وكذا يمكن القول، بان ثمة عوامل اساسية قد اثرت سلبا على الاوضاع فى هذا البلد، منها، ضعف جهاز الدولة السودانى، الى درجة خطرة، وضعف التنمية بمفاهيمها و مستوياتها الاقتصادية و الاجتماعية بصفة عامة، مع اتساع السودان وتمدد اطرافه فى علاقات متداخلة مع دول المحيط.
هل الغرب احمق
لكن كل ذلك لا يجيب عن التساؤل،حول اسباب تشدد الغرب الى درجة " البجاحة " فى التعامل مع قضية الرئيس السودانى. وواقع الحال ان كل تلك المقدمات توضح كيف تهيات الظروف و الاجواء، التى فى ظلها اقدم الغرب على هذه اللعبة، بكل هذا القدر من عدم ابداء اعتبار لردود الفعل، سواء على صعيد الاوضاع الداخلية الاساسية فى السودان او على صعيد السلوك السياسى المساوم للحكم.. الخ.
لكن ثمة عوامل اخرى، بعضها يتعلق بطبيعة التفوذ والسيطرة الغربية فى معظم دول محيط السودان،بما يجعل الغرب قادرا على اختراق السودان من العديد من الاتجاهات،وبعضها يتعلق بضعف المواقف العربية والافريقية الرسمية،وضعف وزن افريقيا فى السياسة الدولية،وعدم تمتع جماهير الامة العربية والاسلامية بالمعرفة اللازمة والولية حول السودان وقضاياه،بما يضعف ردود الفعل على تحركات الغرب،لكن الامر الجوهرى،يتعلق بامتلاك الغرب لاستراتيجيات واضحة فى التعامل مع القضايا المختلفة، بما يجعل الخطوات الجارى تنفيذها، خطوات مدققة و مرتبة ومتتالية او مبرمجة، اذ كل خطوة سياسية تنفيذية يسبقها تقديم مبررات " خداعية "، تكفى لتمريرها باقل رد فعل،اى ان المشكلة الاساسية فينا،نحن لا فى الغرب فقط، ليس فقط لان من بيننا من هو مستعد للتعاون معهم، وانما لان هناك من هو مستعد لقبول الخداع والسير بلا ادراك للابعاد و الاهداف والمرامى البعيدة.
زلذلك هم يصلون حد البجاحه فى السلوك ضد الرئيس البشير،وليسوا اغبياء،اذ هم يتحركون بقدر ما تنطق اوضاعنا.