أنت هنا

مذكرة توقيف البشير وتاريخ الصراع في دارفور
8 ربيع الأول 1430
نسيبة داود




مع استمرار الصراعات في إقليم دارفور المضطرب بين القبائل العربية والإفريقية، اتُّهمت الحكومة السودانية بدعم ميليشيات عربية قامت بأعمال قتل وجرائم أخرى في الإقليم. وفي عام 2005 طلب مجلس الأمن من محكمة الجنايات الدولية التحقيق في مزاعم قيام الحكومة السودانية بإبادة جماعية بحق قبائل الفور في الإقليم الواقع غرب السودان.

وأصدرت المحكمة الجنائية الدولية اليوم الأربعاء قرارا باعتقال الرئيس السوداني عمر البشير، بزعم مسؤوليته عن ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب في الإقليم.

ويأتي هذا القرار بعد مرور أكثر من سبعة أشهر من مذكرة المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية لويس مورينو أوكامبو التي وجهت للبشير التهمة السابقة.

وقال الادعاء في مذكرته إن "قوات وعملاء" تحت قيادة البشير قتلت ما لا يقل عن 35 ألف مدني كما تسببت بـ"موت بطيء" لما يتراوح بين ثمانين ألفا و265 ألفا شردهم القتال.

وزعم أوكامبو قد زعم أن لديه أدلة قوية تدعم قضية الإبادة الجماعية مضيفا أن لديه أكثر من 30 شاهداً سيدلون بشهاداتهم لإثبات أن البشير نظم حملة إبادة جماعية تهدف لمحو ثلاث قبائل إفريقية في إقليم دارفور.

وذكر أوكامبو أن البشير متهم بارتكاب "إبادة جماعية في معسكرات النازحين من أهالي دارفور عبر أسلوبي التجويع والاغتصاب، وأن 5 آلاف شخص يموتون شهريا"، على حد قوله، كما جاء في المذكرة أن  "الأدلة تشير إلى أن البشير قد دبر ونفذ خطة لتدمير جزء كبير من مجموعات الفور، والمساليت والزغاوة، لأسباب إثنية".

وينفي السودان تلك المزاعم، مؤكدا أن أطراف خارجية مثل الولايات المتحدة والأمم المتحدة تسعى إلى تضخيم أعداد القتلى في الصراع.

تاريخ الصراع

ويرجع صراع دارفور إلى سنين طويلة مضت، فمنذ تولي البشير السلطة في السودان بعد انقلاب قام به عام 1989، والصراع في ذلك الإقليم المضطرب يمثل تحديا كبيرا بالنسبة إليه.

ففي عام 1989 شب نزاع عنيف بين الفور والعرب، وتمت المصالحة في مؤتمر عقد في الفاشر عاصمة الإقليم. لكن النزاعات استمرت وإن كانت أقل حدة ظاهريا. وتتأجج النزاعات في ذلك الإقليم أساسا بين الرعاة والمزارعين، كما تغذيها الانتماءات القبلية لكل طرف. وتعتبر الموارد الطبيعية هي أساس أغلب النزاعات، وغالبا ما يتم احتواؤها وتسويتها من خلال النظم والأعراف القبلية السائدة.

وحاولت الحكومة السودانية احتواء الصراع مع حركات أعلنت تمردها في الجنوب السوداني على رأسها الحركة الشعبية لتحرير السودان.

ونشب نزاع آخر بين قبائل العرب والمساليت غرب دارفور في عامي 1998 و2001، وتم احتواؤه باتفاقية سلام بين الطرفين وإن كان بعض المساليت آثر البقاء في تشاد.

وساهمت دول أخرى في تأجيج الصراع في دارفور، حيث قامت دول إفريقية بدعم المليشيات المتمردة المسلحة، إلى جانب الدور الأمريكي والضغوط التي مارستها الولايات المتحدة من أجل تحقيق مصالح متمردي دارفور.

ففي عام 2003 شنت ميليشيات مسلحة هجمات على مراكز للشرطة السودانية، ما أجج الصراع بين المتمردين والحكومة، كما هاجم عناصر من جيش تحرير السودان طائرات سودانية في مدينة الفاشر. وردت الحكومة على الهجمات في محاولة للتصدي للتمرد المسلح.

وأسفر الصراع عن مقتل نحو 9 آلاف شخص، لكن الجهات الدولية ترفع عدد القتلى إلى أكثر من ذلك بكثير. كما أدى إلى تشريد أكثر من مليوني مدني.

وفي سبتمبر 2003 بدأت مفاوضات بين الحكومة والمتمردين في تشاد، وأسفر عن أول اتفاق لوقف إطلاق النار، كما سمح للمنظمات الإنسانية بالدخول للمناطق التي شهدت صراعات دامية بين الجانبين.

وفي مايو 2004 بدأت مفاوضات أخرى في أديس أبابا، تم خلالها الاتفاق على وقف القتال، لكن الاتفاقات انهارت عام 2005 بسبب إصرار المتمردين على شروط رفضتها الحكومة من بينها حل ميليشيات تابعة للحكومة وتسليم بعض المدن للمتمردين.

واتهمت حركة العدل والمساواة إثيوبيا بعدم الحياد، وأصرت على نقل المفاوضات إلى نيجيريا. وفي 5 مايو 2006 تم الاتفاق بين الحكومة والمتمردين، لكن حركة العدل والمساواة امتنعت عن التوقيع عليه بسبب خلافات حول بنود الاتفاق.

وتجدد الصراع في 2008 حيث هاجمت العدل والمساوة مدينة أم درمان، الأمر الذي أسفر عن مقتل عشرات المدنيين.

ويتهم المتمردون الحكومة السودانية بتهميش إقليم دارفور، ما استدعى أن يقوم البشير بالتصدي للتمرد المسلح، خاصة مع سيطرة حركات العدل والمساواة وجيش تحرير السودان على مدن رئيسية في الإقليم. لكن أوكامبو زعم في مذكرته أن البشير لم يتمكن من هزم الحركات المسلحة، فصار يهاجم الشعب. ويقول المدعي العام إن دوافع البشير سياسية في معظمها، مدعيا أنه "يتذرع بمكافحة التمرد"، غير أن "نيته هي الإبادة الجماعية".

واتُّهم السودان بتمويل ميليشيات عربية هي مليشيات الجنجويد لمقاتلة القبائل الإفريقية. كما اتهمت هذه المليشيات بالإغارة على معسكرات اللاجئين وطرد آلاف المواطنين من منازلهم بالإضافة إلى ارتكاب جرائم مثل القتل والسرقة والاغتصاب، وهو ما لم تؤكده أية مصادر أو لجان محايدة.

المحكمة الجنائية الدولية

وفي 2003 كان أول ظهور لويس مورينو أوكامبو الذي انتخب في ذاك العام مدعيا عاما للمحكمة الجنائية الدولية.

وفي 14 يوليو 2008 وجه أوكامبو اتهامات للرئيس السوداني تتعلق بجرائم حرب وإبادة وجرائم ضد الإنسانية، كما اتهم أوكامبو وزير دولة بوزارة الداخلية السودانية أحمد هارون بالتورط في الجرائم التي ارتكبت في دارفور بين عامي 2003 و2004.

وجاء في نص عريضة اتهام البشير: "قام السيد لويس مورينو أوكامبو... اليوم بتقديم الأدلة التي تبرهن على أن الرئيس السوداني.. ارتكب جرائم الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب في دارفور".

كما سعت السودان إلى التفاوض أكثر من مرة مع حركات التمرد الدارفورية التي حملت السلاح في عام 2005، متهمين الحكومة بتجاهل الإقليم. لكن الفصائل رفضت في نوفمبر الماضي التفاوض مع الحكومة، إلى أن تم التوصل إلى عقد مفاوضات بين حركة العدل والمساواة والحكومة بوساطة الدوحة في منتصف فبراير2009. وتم التوقيع على اتفاق نوايا يمهد لمحادثات سلام  حول دارفور.

ويتخوف الكثيرون من أن صدور المذكرة اليوم قد يعيق استكمال محادثات السلام كما سيقيد حركة الزعيم السوداني.

وسعت مصر والجامعة العربية والاتحاد الإفريقي إلى تأجيل صدور المذكرة لمدة عام لكن محاولاتهم باءت بالفشل.

ويعتبر البشير هو أول رئيس توجه إليه تهمة كهذه ويصدر أمر باعتقاله خلال فترة رئاسته. ويشكك قانونيون في جدوى مذكرة كهذه حيث يتمتع الرئيس السوداني بحصانة رؤساء الدول التي يكفلها له الدستور من الملاحقة. لكن هذه الحصانة لن يعتد بها إذا تعرض البشير للتوقيف والاعتقال في أي دولة ومثل أمام المحكمة خلال أي جولة خارجية له خارج بلاده.

وتأسست المحكمة الجنائية الدولية بصفة قانونية في الأول من يوليو 2002 بموجب ميثاق روما. وأول شخص تم تقديمه للمحكمة الجنائية الدولية هو توماس لوبانغا، زعيم إحدى المليشيات المسلحة في جمهورية الكونغو الديمقراطية، وذلك بتهمة ارتكاب جرائم حرب، حيث قيل إنه جند أطفالا قاصرين واستخدمهم في الحرب.

وتنظر المحكمة الآن في أربع قضايا، ثلاث منها أحالتها عليها دول صادقت على المحكمة، وتتهم أشخاصا بارتكاب جرائم حرب وإبادة وجرائم ضد الإنسانية على أراضيها، وهي الكونغو الديمقراطية وأفريقيا الوسطى وأوغندا، والقضية الرابعة أحالها إلى المحكمة مجلس الأمن وهي قضية البشير.

وبعد صدور قرار الاتهام، المتوقع أن يحدث ذلك ارتباكات هائلة على الساحة الداخلية في السودان، حيث أصبحت الحركات المسلحة في دارفور في حالة بعث جديد وتزايد نشاطها الإعلامي خاصة تأييدها لاعتقال البشير.‏ ومن المتوقع أن ترفع تلك الحركات أسقف مطالبها بما يستحيل أن توافق عليه الحكومة السودانية، ويعقد المسألة أكثر.