اعتقال البشير.. كلمة السر لتفتيت السودان !
8 ربيع الأول 1430
جمال عرفة
"يقول الكثيرين ان الجنوب غير مؤهل للانفصال الآن فماذا تري أنت؟.. رايي هو أن "الجنوب مؤهل لاقامة دوله قويه واذا اقتضى الامر بان ينفصل الجنوب تاكد بانه جاهز وسيكون أحسن حالا، كما انه مؤهل اكثر من افريقيا الوسطي ولدينا مستلزمات ومقومات اقامة الدولة من قيادات وكوادر مؤهلة وثروات وحضارة وغيرها من المقومات " !!.
هكذا رد "ادورد لينور" رئيس المخابرات السابق فى حركة التمرد الجنوبية السودانية سابقا (الحركة الشعبية لتحرير السودان) علي سؤال وجه له عن احتمالات انفصال الجنوب السوداني في ظل الأزمة التي تعصف بالسودان بسبب المحاكمة الجنائية التي تجري للرئيس السوداني عمر البشير واحتمالات طلب أعتقاله القوية من قبل المحكمة؟!.
والحقيقة أن ما قاله لينو – أحد قادة التمرد الجنوبي السابق قبل توقيع اتفاقية نيفاشا للسلام – هو ما يقوله أيضا قادة التمرد في دارفور الذين ينقسمون لفريقين : فريق تسيطر عليه فرنسا واسرائيل وفتح لهم مكاتب في تل ابيب وتعهدوا بأنهم سيفتحون سفارة لاسرائيل في الخرطوم مقابله لو تولوا الحكم أو انفصلوا بالجنوب، وفريق ثان تدعمه وتقف وراءه أمريكا وتشجعه بغرض تحقيق مصالح استراتيجيه أمريكية في المنطقة.
وكي لا تضيع القضية في جدال الحديث حول المحكمة الجنائية وأحقيتها في محاكمة البشير – والسودان ليس عضوا فيها مثل أمريكا التي ترفض خضوع مسئوليها لها – أم لا؟، يجب النظر لما وراء خلفيات إثارة هذه المشكلة الأن ولماذا محاكمة البشير مثلا عن ثلاث جرائم (إبادة جماعية – جرائم حرب – جرائم ضد الانسانية) لأنه رئيس لبلد قامت فيه حروب بين ميليشيات مسلحة أفريقية وعربية، وعدم محاكمة الدولة الصهيونية عن جرائم حرب في فلسطين مستمرة منذ 49 عاما قتل فيها آلاف الفلسطينيين؟!.
فالمقصود من وراء قرار المحكمة – الذي حركه الغرب - هو تقسيم السودان وتفتيته وخلق بلبلة وإضعاف الخرطوم، لأن السودان بوضعه الحالي يمثل حالة خاص تضر بالمصالح الغربية.
فنحن أزاء دولة ضخمة مترامية الأطراف تشكل قارة بحد ذاتها وبها موارد غير محدده في كل أطرفها، ويحكمها نظام حكم يتبني أفكارا إسلامية وتقوده حركة إسلامية، ولو ترك علي حالة – خصوصا مع توقف حرب الجنوب وتزايد انتاج النفط وظهوره في مناطق عديدة، فسوف يتحول إلي دولة عظمي إسلامية في القريب العاجل.
وكمثال، ففي أثناء أزمة ارتفاع أسعار النفط الأخيرة ونقص الغذاء الذي أصبح يستخدم في أنتاج الوقود توجه العالم كله للسودان للحصول علي أنتاجه من القمح والحبوب وانهالت المشاريع العربية والأسيوية علي السودان لزراعة مساحات ضخمة من الحبوب، ولو استمر الحال هكذا فسوف ينمو السودان أكثر ويصبح دولة مؤثرة في محيطه الأفريقي.
ولأنه دولة إسلامية، ووحدته وقوته تزعج المصالح الغربية في افريقيا خصوصا في ظل توجه الأنظار نحو أفريقيا كمصدر يمد امريكا بـ 22% من احتياجاتها النفطية والرغبة الأمريكية الغربية في تحجيم الدور السوداني وضرب اي قوي تضر بمصالحها هذه في المستقبل، فمن الطبيعي ان يجري بالتوازي تصعيد الأزمة ضد السودان لتحقيق هدف من أثنين : إما تخلي الخرطوم عن نهجها الاسلامي والقبول بالنهج العلماني - كما يطالب الجنوبيين الذين يعتبرون هذا خطا أحمرا للانفصال -  وإما تفتيته لعدة دويلات وإخضاعها لنفوذ القوي المتمردة التي يدعمها الغرب فيسهل السيطرة عليه وعلي موارده من جهة ويضمن الغرب الا تتعرض المصالح الغربية في إفريقيا للخطر.
وما يجعل السودان هنا رقما صعبا أن حكامه الذين ينتهجون النهج الاسلامي يصعب علي الغرب السيطرة عليهم سواء عبر سياسات القروض والبنك وصندوق النقد الدولي وتوريطهم في فوائد القروض ومن ثم رهن سياساتهم للغرب – كما فعلوا مع دول عديدة، أو سواء عبر فرض سياسات غربية عليه لأنه لا يوجد ما يذلون به الخرطوم أو يضغطون به عليها.
من هنا جاءت فكرة التدخل في شئون السودان و"شد أطرافه" – بمعني تقسيمه سواء بالقوة أو عبر الدفع باتفاقيات سلام مع أطرافه في الجنوب والغرب التي هي علي علاقة جيدة بالغرب.. فأكثر ما يغضب أمريكا والغرب من السودان ويصعب من مهام التأثير علي قراره، هو أن الخرطوم تمثل نموذج إقتصادي متمرد في القارة الأفريقية لا يخضع لأدوات السيطرة الغربية الاقتصادية المعتادة مثل المساعدات والقروض أو سيطرة صندوق النقد أو البنك الدولي علي اقتصاده ما يرهن قراره – مثل غالبية دول العالم الثالث – للقرارات الغربية من الزاوية الاقتصادية.
وما يزيد من أهمية وضع السودان الاقتصادي الغير قابل للإخضاع لأنه غير مرتبط بالاقتصاد الغربي، موقعه الاستراتيجي المتميز وتمدد أراضيه بما تحويه في باطنها من موارد معدنية ونفط من النوع الممتاز عالميا، خصوصا أن واشنطن تسعي حاليا للاعتماد علي نفط غرب أفريقيا والسودان بديلا عن نفط الخليج.
وهذا النموذج السوداني يقدم "نموذجا سيئا (للغرب) في الاستقلالية في القارة الأفريقية لا يقبله الغرب"، ويسعى لتحطيمه عبر الحصار، وجاء قرار الجنائية الدولية كمدخل مناسب لمساومة الخرطوم علي هذه الاستقلالية وابتزازه عبر مشاريع نفطية وتعدينية يدخل فيها الغرب.
وقد كشف مسئولون سودانيون عن أن هناك مطالب أمريكية واضحة بالمشاركة في مشاريع النفط في السودان والسعي للحصول علي نسب منه بشكل منتظم ومنافسة الشركات الصينية والأسيوية هناك، وبأسعار مخفضة خصوصا بترول الجنوب ودارفور، ولذلك يؤججون الصراع في دارفور ويستعملونه ورقة ضغط للابتزاز وللتدخل العسكري ومنع سيطرة الخرطوم علي هذه المنطقة وشراء سيطرة المتمردين علي هذه المناطق.
هجمة صليبية
ولذلك يصف السفير السوداني بالقاهرة عبد المنعم مبروك ما يجري ضد الخرطوم واستهداف البشير بقرار الجنائية بقوله أن:" السودان تتعرض لهجمة صليبية شرسة تستهدف الاستيلاء علي خيراته بحسبان أنه سيصبح أغني دولة عربية.
ويؤكد إن الصراع في دارفور يعود أساسا لأطراف خارجية تدعم حركات التمرد في إطار صراع عالمي كبير على ثروات أفريقيا وبتحريض من جماعات الضغط الصهيونية، وأن السودان قدم مبادرات عديدة لتجاوز الأزمة ولكن تعدد الفصائل المتمردة وتنوع القوى الإقليمية والعالمية التي تدعمها كان وراء فشل التسوية السياسية.
وينوه "مبروك" لأن المحكمة الجنائية "تكيل بمكيالين " وأن أحكامها سياسية لا قانونية، بدليل مجازر "الإسرائيليين" في فلسطين وما يدور في العراق وأفغانستان والذي لا تهتم المحكمة برصده ومحاكمة مرتكبيه برغم أنه واضح وضوح الشمس.
الابتزاز بإعتقال البشير
وما يؤكد أن القوى الكبرى تسعي للسيطرة علي السودان ولإعادة استعمار كل أفريقيا لنهب ثرواته خصوصا النفطية التي بدأت بالفعل بناء خطوط نفط لها في غرب أفريقيا ومنها للأطلنطي مباشرة، أن هذا التحرك الأمريكي والغربي  ضد السودان يرتبط بتصريحات علنية يسربها المسئولون الغربيون للصحف الأجنبية تؤكد علنا أن قرار الجنائية ضد البشير سلاح في يد الغرب للضغط علي السودان.
فصحيفة لوس انجلوس تايمز قالت صراحة علي لسان مسئول أمريكي أنهم سيستخدمون القرار الخاص بالجنائية لـ "بندقية" يشهرونها في وجه البشير والسودان حيت يرضخ لمطالبهم، ودبلوماسيون مصريون وعرب أكدوا أن أمريكا عرقلت خطط عربية وأفريقية لتجميد قرار اعتقال البشير لو صدر لدرجة أن أمريكا هددت بالفيتو ضده، والهدف من وراء كل هذا هو ابتزاز السودان.. فلو قبل أن يدور في دائرة الغرب سيجمد القرار ولو أصر ورفض سوف تستمر الخطة لاثارة القلاقل في كل أطراف السودان بغرض فصلها.
فهم نجحوا في فصل الجنوب ضمنا عبر اتفاقية نيفاشا، ويسعون لاتفاقيات مماثلة مع عشرات المنظمات الانفصالية في دارفور كي ينفصل غرب السودان، وعندما تنجح هذه الخطة سينتقل الاهتمام لشرق السودان بحيث تبقي الدولة السودانية في النهاية شمالية صغيرة محاصرة من البحر ومن الجنوب ويجري فصل الاسلام العربي – الذي يمثله السودان – عن الاسلام الأفريقي – الذي تقع نقطة تماسه في الغرب (دارفور) وفي الجنوب (جنوب السودان) ويتحقق لهم حصار الاسلام لا فقط السودان !.
ولا ننسي هنا أن هناك هدف صهيوني أخر كشفت عنه المخابرات الصهيونية في أكتوبر الماضي 2008 بشان تفتيت السودان لأنه يمثل عقا استراتيجيا للعالم العربي ومخزون قوي يقي العالم العربي الحصار لو حدث، كما أن هناك (130) جمعية يهودية تعمل علي ترويج الشائعات ضد السودان والزعم أن هناك إبادة جماعية به، وهدفها شغل السودان ومصر.
والحقيقة أن التفتيش عن سرّ هذه المشكلات التي يصعّدها الجنوبيون من حين لآخر يوصل دوماً إلى الأمريكان، والدور الذي تسعى الإدارات الأمريكية المتعاقبة للعبه في تقسيم السودان ضمن سياسة «تفتيت الأطراف» التي اتبعتها منذ توليها الحكم تجاه السودان عبر سلسلة اتفاقات سلام، والخطوات التي اتخذها الجنوبيون منذ توقيع اتفاق السلام ظلت تصب في هذا الخط الأمريكي مثل فتح حكومة الجنوب 18 مكتباً للحركة الشعبية في عدد من دول العالم، على رأسها «قنصلية» في الولايات المتحدة الأمريكية؛ ضمن خطوات أخرى للتمهيد لفصل جنوب السودان عن الشمال، وإنشاء بنكاً مركزياً جديداً وصك عملة خاصة بها، ووكالة أنباء لجنوب السودان (وكالة جنوب السودان للأنباء) بالإضافة إلى تأهيل إذاعة وتلفزيون الجنوب، وتتفاوض مع شركات اتصالات لنشر خدمة التلفون بكود دولي مختلف عن كود السودان الموحد، فضلاً عن ترخيص المركبات العامة والخاصة في الجنوب بلوحات تحمل رمز NS؛ وهي اختصار لـ “السودان الجديد” أو New Sudan؛ وتخالف الترخيص المعمول به في شرطة المرور لكافة أنحاء السودان؛ حيث تحمل كل ولاية رمزاً معيناً لها.
كما الأعوام الثلاثة الماضية لم يضيعها قادة الحركة الجنوبية هباءً، وإنما استغلوها في تسليح الجنوب وتأهيل جيش جنوبي ضخم ليس فقط بالعتاد الثقيل والدبابات، وإنما أيضا بالطائرات وإنشاء قوات جوية وبرية بل وبحرية كما يأملون في السنوات الباقية!.
والوضع نفسه يجري في دارفور، حيث يعطي الغرب دعم غير محدود للقوي المتمردة، وتطرح خطط لنوع من الاستقلال الذاتي لدارفور ليحكمه عناصر  تعتبر أداة علنية في يد الموساد "الإسرائيلي" وأجهزة الاستخبارات الغربية‏، بحيث يسهل عن طريقها فصل غرب السودان مثل الجنوب المهيأ للانفصال في أي وقت.
ولذلك فالسيناريوهات المطروحة بعد حكم الجنائية الدولية تبدو متشائمة وأكثر ميلا نحو تقسم وتجزئة السودان خصوصا فصل الجنوب (ثلث السودان) والغرب (خمس مساحة السودان)، فالمستهدف هو سيناريو التجزئة من الداخل لكل السودان.
ويزيد هذا السيناريو – الانفصال وتفتيت السودان – حضورا بقوة، قول وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي (آفي ديختر) في محاضرة نشرتها الصحف العبرية يوم 10 أكتوبر الماضي 2008 – في إجابة عن سؤال يتردد لدى بعض الإسرائيليين عن (لماذا كل هذا الاهتمام بالسودان) ولماذا نتدخل في شؤونه الداخلية.. في الجنوب سابقًا وفي دارفور حاليًا - أن : "الهدف – كما قال - هو تفتيت السودان وشغله بالحروب الأهلية "لأنه بموارده ومساحته الشاسعة وعدد سكانه يمكن أن يصبح دولة إقليمية قوية، وإنه يجب أن لا يُسمح لهذا البلد رغم بُعده عنا بأن يصبح قوة مضافة إلى قوة العالم العربي لأن موارده إن استُثمرت في ظل أوضاع مستقرة فستجعل منه قوة يحسب لها ألف حساب، ولذلك كان لا بد أن نعمل على إضعاف السودان وانتزاع المبادرة منه لبناء دولة قوية موحدة وهذا من ضرورات دعم وتعظيم الأمن القومي الإسرائيلي".
فهل يكون قرار المحكمة الجنائية هو كلمة السر لتفتيت السودان؟