قراءة متأنية في المسألة الإيرانية
4 ربيع الأول 1430
خالد عبداللطيف

صفة لازمة لا يكاد ينفك عنها المشهد الإيراني في المنطقة على مر السنين والتغيرات والتحولات؛ حتى غدت هذه الصفة القاسم المشترك مع اختلاف التحليلات والرؤى.

"الغموض" هذه الصفة التي تنتهي إليها كثير من التحليلات والقراءات في المواقف الإيرانية، فتصل بالقارئ المتعطش إلى نقطة البدء؛ ليبحث لدى مراقبين ومحللين آخرين ما لعله يكون أهدى سبيلا.

المسألة الإيرانية باتت مجرد أرق وقلق وهواجس تعبر عنها أقلام كثيرة؛ حتى لم يعد مستغربا أن يدع الكاتب قلمه جانبا ليسأل القارئ في نهاية المقال: أي القراءات يختار؟ أو إلى أي الرؤى يميل؟

 

فريق آخر من المحللين يبدو أكثر جدية في قلقه فينزع إلى أهمية حسم المسألة من جانب قيادات المنطقة: هل إيران عدوة أو صديقة؟ ومن ثم يدعو أصحاب هذا الاتجاه إلى عدم الغوص في بحور الاجتهادات، والسعي بدلا من ذلك إلى إجبار الطرف الإيراني على الوضوح وبيان حقيقة موقفه. وإن كان هذا الفريق ليس بأسعد حالا ممن ينفض يده من المسألة دون إبداء الرأي ويكل ذلك إلى شفافية بعيدة المنال.

 

وربما ألجأ هؤلاء إلى ذلك في الآونة الأخيرة أن المسألة الإيرانية بدت أكثر تعقيدا، بل بدت حالة مركبة من مزيج غير متجانس من المواقف وردود الأفعال؛ ففي الوقت الذي تقوم فيه طهران بدور ملفت في المنطقة، وتظهر المؤازرة لحماس وأهل غزة (بالتأييد للحركة في مقاومتها العدو الصهيوني، ومد يد المساعدة للشعب المنكوب)، ومن ثم تحوز على رصيد من الثناء الجماهيري في مقابلة مواقف عربية مشينة، في الوقت نفسه وقبل أن تهدأ تداعيات العدوان على غزة، يتولى مسؤولون وإعلاميون بارزون في طهران كبر تصريحات عدائية بل مهينة تجاه "البحرين"، وجدت فيها الجهات المتهمة بالتخاذل تجاه الشعب الفلسطيني فرصة الثأر والتنديد وبيان حقيقة السياسة الإيرانية، على حد قولهم. لكن القيادة الإيرانية - وفي حلقة جديدة من المراوغة والغموض - بادرت إلى الاعتذار وتقديم كبش فداء، وأن هذه التصريحات لا تعبر عنها بحال.   

 

وما بين غموض مستتر خلف التساؤلات والخيارات العديدة، ونزوع إلى أن المسألة الإيرانية الشائكة لا تحل إلا بدعوة إيران نفسها للإفصاح والشفافية، يتنكب فريق ثالث من المتخصصين في المسألة إحالة القارئ على نفسه، أو على الجواب الإيراني (على افتراض مجيئه)، ويسهم بقراءة واعية للتاريخ في كشف بعض الأستار عن المواقف المتضاربة، وأنها إنما تدور مع مصلحة طهران، وتخضع لمؤشرات وموازين تتناسب مع أهداف الدولة الشيعية، التي لا يخفى على أنصاف المثقفين أن "التقية" في ثوب "الدبلوماسية" تكاد تكون جزءا من أيديولوجيتها في مواجهة الآخر، فلا بأس بتصريح تكتيكي اليوم، واعتذار غدا، ولا مانع من مساندة خصم إستراتيجي لكسب جولة ضد خصم آخر.

 

ومن هنا يرى أكاديميون عرب متخصصون في الشأن الإيراني عدم الوثوق بصدق طهران في رفع شعار "نصرة المستضعفين" على الرغم من النص عليه في دستور ثورتها، وعلى الرغم من تأكيد ودندنة الخطاب الرسمي لها به على مدى ثلاثين عاماً.

وتضرب د."نيفين مسعد" أمثلة لذلك بمواقف إيران العديدة المتفاوتة، حين نقيسها بشعارها الدستوري (نصرة المستضعفين)، منها: عند قمع إخوان سوريا في مدينة حماة، وفي حرب أرمينيا مع أذربيجان، وفى حرب يوليو/ تموز 2006 على لبنان، وأخيراً في العدوان الصهيوني الهمجي على غزة في ديسمبر/ كانون الأول 2008.

 

لتؤكد الباحثة (المتخصصة في الشأن الإيراني) أن الأمثلة المذكورة اختلف في كل منها ما يربط بين إيران وبين الطرف المستضعف، فكان الرابط هو الدين مع إخوان سوريا ومقاومة فلسطين، وكان هو الدين والطائفة مع حزب الله، وكان هو الدين والامتداد الديموغرافي العرِقي - وربما الطائفي أيضا - مع أذربيجان.

وفى هذه الحالات نفسها اختلف شكل الدور الإيراني مع الطرف المستضعف، فراوح بين التحالف الإستراتيجي كما هو الحال مع حزب الله، وبين الجوار الجغرافي كما هو الحال مع أرمينيا، وفيما بين الحدين كانت هناك أشكال من العلاقة، تختلف في طبيعتها، وتتباين من حيث جوهرها.

 

لكن – وهذا هو أهم ما تلفت الباحثة إليه الأنظار - في أي من تلك الحالات لم تسمح إيران لا لمقومات ارتباطها بالطرف المستضعف، ولا لعلاقتها به مهما كان عمقها، بأن تقودها إلى حيث لا تريد أن تذهب، فسواء كان موقفها هو التجاهل كما حدث مع الإخوان في سوريا، أو نصرة المستكبر على المستضعف كما فعلت مع  الآذريين، أو الدعم المادي والمعنوي واللوجستي الذي قدمته لمقاومة لبنان وفلسطين - مع اختلاف بيًن في حجم هذا الدعم ما بين مقاومة وأخرى-، فإن إيران تصرفت دائماً بمنطق الدولة القومية وإن كانت إسلامية.

وهنا نعود بدورنا لنقطة البدء، لكن ليس لدعوة القارئ إلى خيارات، أو لاستجداء شفافية بعيدة المنال من طهران تزيل اللبس عن مواقفها، ومن ثم تحديد: هل هي عدوة أم صديقة... ولكن لدعوة من يدعون إلى ذلك كله وأمثاله إلى قراءة التاريخ!