مرشح الإنقاذ القومي
27 صفر 1430
د. محمد يحيى

يتصور البعض أن باراك أوباما قد جاء إلى سدة الرئاسة في الولايات المتحدة تعبيرًا عن إرادة شعبية طاغية في التغيير ورفضًا لحكومة بوش التي تعبر عن اليمين المحافظ والتيارات الدينية الأصولية والرأسمالية الجديدة المسماه بالليبرالية الجديدة، وهذا إلى حد كبير تصور صحيح ولكن الأصح منه أن باراك أوباما نفسه هو مرشح للنظام الأمريكي الرسمي قد جاء أو جيء به لكي يغطي على فشل وكوارث إدارة بوش وثماني سنوات من حكم اليمين المتطرف والرأسمالية الجامحة.

ذلك لأن النظام الأمريكي الرسمي، وهو نظام يتجاوز الأشكال الهيكلية المؤسسية المعروفة مثل الإدارة أو الحكومة الأمريكية والمؤسسات الكبرى في المجتمع الأمريكي مثل الكونجرس والصناعة وغيرها ليعبر عن مصالح القوى الحقيقية التي تحكم أمريكا وتوجه سياستها، هذا النظام قد أراد أن يغطي على فشل الإدارة اليمينية، ويأتي بوجوه جديدة لكي تمنح الناس وهم أن هناك تغييرًا حقيقيًا يحدث في البلاد وهو ليس تغييرًا حقيقيًا بقدر ما هو تعبير عن عملية خداع وهمية يراد منها أن ينسى الناس ما سببته الإدارة القديمة، ويتصوروا أن عهدًا جديدًا سوف يبدأ.

وأوباما لن يغير في شكل كبير لأنه وببساطة هو مرشح وإبن النظام الذي سوف يستمر على نفس السياسات، ولكن سوف يعطيها أشكالاً ظاهرية مختلفة كما أنه سوف يستخدم أساليب أكثر إنسانية في شكلها الخارجي، وإن كانت تحتوي على نفس المعاني القديمة، وهذه العملية الخداعية ليست موجهة فقط إلى الداخل الأمريكي، ولكنها موجهة أيضًا إلى الخارج العالمي، حيث يراد أن تظن شعوب العالم أن هناك بالفعل تغييرًا قد حصل في السياسة الأمريكية، وبالذات الخارجية لكي تنسى المعارضة التي أصبحت الآن متصاعدة بشكل رهيب ضد هذه السياسة، وتبدأ في تحسين العلاقات أو على الأقل تهدئتها مع الولايات المتحدة أملاً وطمعًا في تغيير جديد يحدث مع قدوم أوباما، وهكذا أخذت شعوب ومحللون كثيرون في أنحاء الدنيا يستبشرون خيرًا بمجيء أوباما ويتصورون أن هذا الرئيس الأسود لأول مرة في التاريخ الأمريكي سوف يحدث المعجزات، وسوف يغير السياسات الأمريكية تغييرًا جذريًا ليتجه بها منحى إنسانيًا يقارب بها الشعوب ولا يحاربها ويخفف من غلو وغطرسة سياسة العولمة والقطب الواحد التي أقرتها الإدارة اليمينية والرأسمالية الجديدة، لكن هذه الظنون كلها سوف تخيب لأن أوباما لم يجيء لكي يغير من سياسات أمريكا تغييرًا سواء أكان ذلك جذريًا أم حتى طفيفًا وإنما هو جاء ليؤكد نفس السياسات، ولكن ليعبر عنها بأشكال مختلفة وبأساليب وطرق وشكليات مختلفة عما كان يحدث من قبل، فهو لن ينهي الحرب على الإرهاب وإن كان ولابد سوف يغلف هذه الحرب بأغلفة جديدة لا تفوح منها بصراحة رائحة كراهية الإسلام وكراهية العرب أو حتى كراهية شعوب العالم الثالث كما كان يحدث من قبل، وهو لن يكف السياسات الرأسمالية الجديدة أو الليبرالية الجديدة، في مجال الإقتصاد والإجتماع بالذات، ولكنه سوف يحاول أن يصور التكييفات التي سوف يحدثها في بعض هذه السياسات على أنها تغيير وما هو بتغيير بل هو ربما تخفيف بسيط في بعض الآثار الجانبية لتلك السياسات مع الحفاظ على جوهرها كما هو، وربما يعمل في السياسة الخارجية على تخفيف حدة الصراعات التي بدت الآن في الأفق بين أمريكا من ناحية وبين الصين أو روسيا أو حتى بلدان بعض مناطق جنوب شرق آسيا وأمريكا الجنوبية من الجانب الآخر، لكن هذا التخفيف مثل التهدئة لن يحول دون استمرار المساعي الأمريكية لكي تكون أمريكا قطبًا فاعلاً في تحديد مصائر وشؤون الإقتصاد والسياسة، وحتى القوى العسكرية في العالم ولكنها سوف تعمل ذلك ربما بإسلوب أقل صراحة وأقل حدة وصدامًا واستفزازًا عما كان يحدث من قبل، وأكثر تركيزًا على جوانب الدعاية والدبلوماسية الهادئة والعمل بأساليب خلفية لكي تحقق تلك الأغراض العامة التي سوف تحاول أن تسترها الان بالحديث عن التعاون الدولي وليس الصدام، والناحية الوحيدة التي لم يتحدث فيها أحد عن أي تغيير في السياسة الأمريكية كما لم يتحدث أوباما نفسه وفريقه الجديد عن أي تغيير فيها هي سياسة الشرق الأوسط لدى الإدارة الأمريكية التي من المؤكد أنها سوف تستمر على ما هي عليه من انحياز لإسرائيل ومن هجوم على حقوق العرب المشروعة سواء أكان ذلك في فلسطين أم في ما حولها.

إن السياسة الأمريكية في هذه القضية الفلسطينية بالذات وفي بعض القضايا العربية الأخرى لن تتغير لسبب بسيط هو أن السياسة القديمة التي كانت تنتهجها الإدارة اليمينية في عهد بوش كانت هي التعبير الحقيقي عن مصالح أمريكا الجوهرية في هذه المنطقة وهي الحفاظ على قوة إسرائيل من ناحية وضمان السيطرة على البلاد العربية وعلى ثرواتها البترولية والبشرية من خلال مجموعات من النخب الحاكمة التي توالي الإدارة الأمريكية وتوالي معها النظم والحكومات والسياسات الأوروبية الأخرى، أما ما يتحدث عنه أوباما من تغييرات طفيفة في السياسات الأمريكية تجاه العراق أو أفغانستان وربما تجاه بلدان أخرى في أفريقيا وفي غيرها فليس سوى محاولة لتهدئة الأمور للتفرغ لما هو أهم من مواجهات مع قوى تخافها أمريكا مثل الصين وروسيا أو بعض دول ناهضة أخرى في أمريكا الجنوبية وفي جنوب شرق آسيا، وترى الإدارة الجديدة التي يترأسها أوباما انه من الأفضل تهدئة الأمور مع بعض الدول والقضايا الفرعية حتى يتسنى لها معالجة المشكلات والمواجهات الرئيسية التي تنتظرها في الحقبة القادمة وأهمها التحدي الإقتصادي والتحدي القضايا الظاهره الجديدة مثل قضايا الموارد الطبيعية والثروات التي يراد استغلالها من هذه الطبيعة سواء في مجالات الطاقة أو مجالات الزراعة وغيرها ومع مشاكل البيئة ومشاكل السكان كما تراها أمريكا فهذه المشاكل تهدد عالمهم الأول المترف والمتخم بالثروات والرفاهية بأن تنتقص رفاهيته، وهذا ما لن تسمح به أمريكا سواء تحت إدارة بوش اليمينية أو تحت إدارة أوباما التي يقال عنها أنها تسعى إلى التغيير.