أيتها الذاكرة : أما تزال (مأساة حماة) تحفر أخاديدها فيكِ؟!..
21 صفر 1430
د. محمد بسام يوسف

لم تكن هناك مئات الكاميرات المسخَّرة لتصوير وقائع المأساة، لأنّ الآثمين يعرفون تماماً، أنّ ما يقومون به هو جريمة بشعة، بحق الوطن وأبنائه وبناته وشيوخه وعجائزه وأطفاله، بل بحق الإنسانية والإنسان الذي كرّمه الله عزّ وجلّ.. أجل.. يعرفون ذلك، فما كانوا من السذاجة ليسمحوا بتصوير مشاهد الجريمة التي استمرت أربعةً وثلاثين يوماً!.. فقد وقع الحدث، في حقبة ما قبل انتشار القنوات الفضائية ومنتجات الثورة التكنولوجية والمعلوماتية.. التي أصبحنا نشهد بواسطتها اليوم الحروبَ متلفَزَة.. فالحرب هذه الأيام، لها كاميراتها وقنواتها الإعلامية والفضائية ومراسلوها وشهودها، جنباً إلى جنبٍ مع جنودها وآلتها العسكرية وضحاياها وآلامها ومنتصرها ومهزومها!..

 

في ساحة الحرب، منذ سبعةٍ وعشرين عاماً، لم تكن هناك (تسيبي ليفني)، التي تعتبر أنّ ما تقترف من جرائم، سيكون فخراً لها ولرعاياها، الذين تطمح للاستحواذ على أصواتهم الانتخابية، لذلك، فهي ترى أنّ من صالحها نقل كل تفاصيل جريمتها، بالصوت والصورة، نقلاً حياً مباشراً إلى المشاهدين في كل أرجاء الأرض.. بينما في (حماة) الصابرة المحتسبة، فقد كان الجاني يعرف أنّ ما يقترفه هناك، هو جريمة تاريخية لا يمكن أن يرتكبها إلا عتاة المجرمين، الذين خانوا الله ورسوله، وغدروا بالوطن وشعبه، لذلك كان إخفاء معالم الجريمة الكبرى، أحد أهم هواجسه، ومصدر الجزء الأكبر من قلقه وهلعه.

 

مع ذلك.. مع كل ذلك التعتيم، فقد بقيت معالم المأساة وتفاصيلها المروّعة، محفورةً في ذاكرة الآباء والأجداد والشقيقات والأشقاء والعمّات والأعمام والخالات والأخوال، الذين كتب الله لهم الحياة، بعد أن فقدوا أربعين ألفاً من أرحامهم، ورأوا بأعينهم جنود (هولاكو)، وهم يقتلون ويدمِّرون ويهتكون ويسرقون وينهبون ويعتقلون ويعذِّبون ويروِّعون!.. كل ذلك ما يزال محفوراً في أخاديد الذاكرة، التي ما تزال تعرض شرائط الجريمة حيةً رطبةً بالغة الوضوح.

 

منذ سبعةٍ وعشرين عاماً، ما تزال المشاهد حيّةً في الذاكرة المتوارَثة عبر الأجيال، لأنّ أحداً من المجرمين أو ورثتهم، لم يعمل على التخفيف من عمق الجريمة، وتأثيراتها في النفوس والتاريخ والقلوب، ولم يعمل على (تبهيت) ألوانها، لمصلحة وطنٍ وشعبٍ وأمة، بل زاد عليها، مزيداً من الألوان والخطوط والمنحنيات، فكانت عقدة (حماة)، منعقدةً على الحبل نفسه الذي يصل إلى (صيدنايا)، مروراً بتدمر والمشارقة وجسر الشغور وأخواتها!..

 

اليوم، لا مكان في ذاكرة الجناة، إلا لأحاجي (الممانعة) و(التصدّي) و(الصمود).. فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة، ولا مكان للكاميرات، إلا ساحات دمشق، ومدرّجات ملاعبها، التي تغصّ بأعلام (المقاومين) المحتفلين، بدءاً باللون الأصفر، وانتهاءاً باللون الأحمر أو الأسود.. فالقوم مشغولون باحتفالات النصر.. إذ حتى النصر له صنفان من الاحتفالات: علنية، عندما تكون الحرب متلفَزَة، وسرّية، عندما تكون الحرب بلا كاميراتٍ ولا تصوير!.. لكنّ ذاكرة شباط السابع والعشرين ما تزال تستعرض الشريط الحمويّ للمأساة: ثلة جنودٍ من جنود (الجيش الوطنيّ)، لوطنٍ جَلَتْ عنه جيوش فرنسة قبل ما يقرب من أربعة عقود، يتراهنون ببنادقهم، على (إسقاط) طفلٍ عمره أربع سنوات، يلعب على شرفة بيته في الطابق الرابع!.. أو: كتيبة من سرايا (التحرير)، تقتحم مركزاً للعجزة المكفوفين، فتقذفهم برشاشات النفط حتى تتبلل ثيابهم ولحاهم به، ثم تُشعِل فيهم النيران لتحرقهم وهم أحياء، فيصرخون ويستغيثون، بينما يقف الجنود يضحكون عليهم، ويستهزئون، ويدخّنون، إلى أن تصعد عشرات الأرواح إلى بارئها!.. أو: فصيلة من (حُماة الوطن)، تداهم مشفىً لضحايا (الحُماة الزملاء)، فتقتل الجرحى والمرضى والأطباء والممرّضات وعمال النظافة والموظّفين والزوّار، ثم تنقل جثثهم المقطّعة، بسيارات نقل النفايات، إلى مقابر جماعيةٍ غير معلومة!.. أو: مجموعة من (حُرّاس الشعب)، تقذف بالنساء والرّضّع من فوق أسطحة المنازل!.. أو: دبابة (صامدة) تسحق بجنازيرها جموع المعتقلين المجمَّعين في زاوية أحد الشوارع، فتتناثر على الجنازير قطع الأرجل والرؤوس والأيدي المسحوقة!.. أو: قطعة عسكرية من جيش (التصدّي)، تدمّر بقذائف مدفعيّتها وراجمات صواريخها، ثمانين مسجداً وأربعة كنائس ونصف أحياء المدينة.. فوق رؤوس روّادها وساكنيها!.. أو: عبوة متفجِّرة زرعتها (وحدة الفتح المبين)، في طريق أطفالٍ جائعين، فانفجرت بهم، ليتساقطوا مضمَّخين بالدم والدمع والخوف!..
أيتها الذاكرة التي لا تنسين: ألم تُنسيكِ بطولات (الممانِعين) اليوم، ما أنتِ فيه منذ سبعٍ وعشرين سنة؟!.. ألم تُمهَر -هذه الأيام- سواعدهم التي حفرتكِ –أيتها الذاكرة- بأختام مهزلة (شراكة النصر)، وشهاداتها (المزيَّفة)، وشهودها (الزّور)؟!..
أيتها الذاكرة التي لا تنسين: لو كان (باراك) و(أولمرت) هما اللذان اقترفا في (حماة) ما اقترفاه في غزة، وهو بكل الأحوال يساوي أكثر من ثلاثين ضِعفاً.. فهل كنا بحاجةٍ إليكِ؟!.. وهل كنا بحاجةٍ لشرائطكِ؟!.. أم أنّ صور الجريمة التي ستملأ أرجاء الكون، كانت ستكفي، لرؤية الجناة (الوطنيين) مصفَّدين في أقفاص محاكم (لاهاي)؟!..