ملحمة غزة .. دروس وعبر
11 صفر 1430
عبد الباقي خليفة

حرب الابادة التي تعرضت لها غزة، على مدى 22 يوما وأسفرت عن استشهاد 1203 شهداء بينهم 410 أطفال و108 نساء و108 مسنين و14 مسعفا و5 أجانب و4 صحافيين، بينما بلغ عديد الجرحى 5320 جريحا، كشفت عن أن الصهيونية أعلى مراحل الفاشية والنازية. وأن ما يسمى بالمجتمع الدولي، ومجلس الأمن، والاتحاد الاوروبي، وحتى الجامعة العربية،كائنات تتحنط وتمسخ عندما يتعلق الأمر بقضايا الانسانية والاسلام والعروبة. وتأكد كل ذلك من الملحمة التي دارت في غزة، والتي يجب  أن نستخلص منها الدروس والعبر. والدروس المستفادة مما جرى في غزة من مجازر حولها لما يشبه المقبرة الجماعية، نظرا لحجم الدمار الذي لحق بها، كثيرة. من أهم الدروس المستفادة من حمام الدم في غزة :
1)- أن الاسلام يثبت قدرته على الصمود والثبات إذا قاد المعركة، أورفعت رايته في أي صراع كان أو مواجهة من أي نوع. وكان تغييبه في المعارك والصراعات والسياسات جريمة كبرى وخيانة عظمى، يجب أن تحاسب الأجيال الحاضرة والقادمة المتورطين فيها. فقد أنهى الاسلام تلك الحروب التي تستمر 6 أيام فقط، أوالهزائم التي تلحق بالجيوش الجرارة، التي تقهر الشعوب، وتتقهقر أمام الأعداء الحضاريين، وهم الأعداء الحقيقيين.
2)- أنه يجب فتح تحقيقات من قبل أهل الاختصاص لمعرفة الأسباب الحقيقية التي وقفت وراء الهزائم المتتالية ولا سيما في 1948  و1967 م وانتكاسة 1973 م بعد أن كان النصر في المتناول. وعدم الاكتفاء بما قيل ويقال حول دور التدخل الخارجي، ونوعية الأسلحة. لأن العدوان على لبنان (2006 م) والعدوان على غزة (2008 / 2009 م) كشف عن حقائق جديدة تتعلق بنوعية المقاتلين وأياديهم المتوضئة. وبالريات المرفوعة في الميدان، وفي وسائل الاعلام. وبالخطاب السياسي والعنوان الحضاري والثقافي. والاعداد الايماني قبل الاعداد العسكري بقطع النظر عن توفر السلاح المتطورلدى الخصم وتحالف الأعداء معه.لنسأل جميعا الآن، لماذا أوقفوا الحرب بعد 6 أيام سنة 1967م، ومن المسؤول عن انهيار معنويات الجندي العربي. وما دور الحرية والكرامة المفقودة داخل الثكنات العربية المسماة أوطان في حصول الهزيمة. وتغييب الامة عن ماضيها وحاضرها ومستقبلها ومصادرة جميع حقوقها. ثم تساق بغير رضاها إلى الهزائم. وما دور الشعب والامة في القرارات السياسية التي تتخذ باسمها في غيابها ؟
3) - أكدت ملحمة غزة على أن القضية الفلسطينية ليست متعلقة بالفلسطينيين فحسب، ولا بالعرب فقط، وإنما هي قضية المسلمين الأولى، وقضية الانسانية جمعاء. وقد أظهرت المسيرات المليونية، والتي شملت معظم دول العالم من استراليا وحتى كاراكاس، أن قضية فلسطين قضية العالم أجمع أيضا (بحكم الدور الدولي في ظهور دولة الكيان الصهيوني قبل 60 عاما) وإن كانت قد اتخذت شكل دوائر، فلسطينية، عربية، اسلامية، وانسانية. وليس هناك تناقض بين هذه الدوائر كما يريد أن يوهم من يريد تحجيم القضية في كونها فلسطينية أو عربية. فكم هي تعيسة قضية فلسطين لو وقفت عند الدائرة الاولى أوضاعت في الدائرة الثانية كما نراها اليوم في الفوضى الرسمية التي عبر عنها عمر موسى أحد قادة أركسترا الفوضى.
4) - كشفت ملحمة غزة عن أن الطابور الخامس، لم يعد يتمثل في بعض الكتاب أو الصحافيين العملاء للداخل أوالخارج أو للطرفين معا فحسب. بل أن الطابور الخامس أصبح يتمثل في حكومات لم تعد تخجل من نفسها، ولم تعد تعر شعوبها أي اهتمام، بل تستخف بمشاعر الملايين، وتقدم رضا الغرب والكيان الصهيوني على مطالب الامة ومصالحها الاستراتيجية.
5) - عرت ملحمة غزة  أولئك السماسرة الذين يتاجرون بقضية فلسطين، ويتظاهرون بنصرتها والدفاع عنها. ثم يتقاعسون حتى عن مدها بالطعام والدواء، فضلا عن السلاح. أومن يساهمون في ردم الانفاق حتى يموت الشعب الفلسطيني في غزة جوعا، أو يركع للشروط الصهيونية. وما تم السماح بتمريره لا يكفي حاجيات غزة لمدة يومين. ثم تعقد قمة هزيلة في الكويت بعد نحو شهر من الابادة في غزة، فهل هناك دلالات تردي وانهيار سياسي واخلاقي أكبر من هذا ؟
6)-  أعطت ردود الأفعال على العدوان الصهيوني على غزة زخما لآمال الأمة في الوحدة تحت راية التوحيد بمفهومه العقدي والثقافي والسياسي والحضاري. فقد أثبتت ملحمة غزة على أن الأمة لا تزال حية. وأن هناك من هو على استعداد لتقديم ما يملك حتى حياته مستعد للجود بها من أجل حرية فلسطين وكل الأمة. وما عبرت عنه الجماهير نساءا ورجالا، شيوخا وأطفالا يؤكد على وجود أحياء بين موات الأمة. بل أن الأحياء بمشاعرهم وأحاسيسهم ووجدانهم وعقولهم أكثر من الأموات الأحياء.
7) - لأول مرة في تاريخ العرب الحديث، يقوم قادة بتقدم صفوف المقاومة. فقادة حماس يقودون المعركة بكفاءة عسكرية في الميدان، سيكون لها ما بعدها. وكذلك بكفاءة سياسية من خلال الاصرار على مطالب الشعب الفلسطيني في الحرية والاستقلال. والتأكيد على أن المعركة من أجل فلسطين وليس غزة فحسب. لقد جدد قادة حماس ملاحم الاسلام عبر التاريخ، عندما كان القادة يتقدمون الصفوف ويكونون أول الشهداء في غزة. وكان ذلك سر الانتصار الذي طبع تاريخ الفتوحات في زمن العزة. وبالتالي فإن استشهاد سعيد صيام وقبله الريان رحمهما الله، كان ضروريا لمصداقية المقاومة، ولتتحول كلماتهم من عرائس من شمع إلى روح تسري في المقاتلين والشعب والامة جمعاء.
8) - لقد ساهمت ملحمة غزة في انتشار الوعي بالقضية بين الأجيال الجديدة والاجيال القادمة في الامة. وكذلك بين شعوب العالم، فلطالما وصف الفلسطيني والمسلم وحتى العربي غير المسلم بأنه ارهابي. واستطاعت الدعاية الصهيونية والفاشية الجديدة في الغرب احداث اختراق كبير في ذهنية المواطن العادي، لكن ملحمة غزة فتحت أعين الملايين على التلبيس والتضليل الذي كان يمارسه رموز الاسلاموفوبيا وفي مقدمتهم الصهاينة والمتحالفون معهم. وعرف الكثيرون بأن الارهابي الحقيقي هو الصهيوني الذي جمع ما في النازية والفاشية من خسة وحقارة ونذالة واجرام وعدوانية وكراهية مقيتة للآخر.
9) - من أهم الدروس المستفادة من ملحمة غزة، هو أهمية الاستعداد للتضحية. فالتضحية بالنفس هي أعلى مراحل الولاء للعقيدة وكل ما وجب التضحية به. فالله سبحانه وتعالى أمر بحفظ النفس والمال والعرض والنسل، لكنه سبحانه أمر بالتضحية بكل ذلك إذا اقتضى الأمر، في سبيل الله، من أجل الدين والعقيدة، وأراضي المسلمين المحتلة. وقد أكدت المقاومة الفلسطينية استعدادها للتضحية، وبرهنت على ذلك من خلال صمودها البطولي والذي كان اسطوريا بامتياز.
10) - أدت وسائل الاعلام البديلة (الالكترونية) ولا سيما المواقع الاسلامية دورا رياديا. وكانت بمثابة عصى موسى التي تلقفت إفك اعلام الفرعون. وقد بدا واضحا أن الجهات الرسمية، وعبر قنواتها المختلفة كانت ولا زالت تتابع كل ما يكتب في وسائل الاعلام الالكترونية وغيرها من وسائل الاعلام المرئية والمسموعة والمقروءة. وكان لاعلام المقاومة دور كبير في التعريف بحقيقة ما جرى ويجري سواء على صعيد المقاومة أو الحراك السياسي في الداخل والخارج. ولا شك فإن الدور الاعلامي في حاجة لتعزيزه وفتح آفاق أرحب له في المستقبل كما وكيفا وعلى كل المستويات.
11)- لقد جاء العدوان الصهيوني مع تقاطع مراحل تاريخية، تشهد تقهقرا للجبروت الاميركي تحت ضربات المقاومة في العراق وأفغانستان، وتحت ضغوط الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالمقدرات الاميركية والاوروبية وتهدد بالأسوأ. كما جاء في مرحلة انتقال للسلطة في الولايات المتحدة الاميركية، لمحاولة وضع حقائق جديدة مع رجل (التغيير) القادم باراك أوباما. لكن ملحمة غزة منعت الكيان الصهيوني من تحقيق أهدافه، وبالتالي فإن تداعيات العدوان ستكون لصالح المقاومة والامة على المدى المتوسط والبعيد بعون الله تعالى. 
12) - أخيرا لقد أدى العدوان على غزة إلى فرزالصفوف بين الذين يحملون القضية، ومن يحملون (بتشديد الميم وكسرها) القضية وزر تخاذلهم وتواطئهم. بين من يدركون بأن العدو الصهيوني لا يمكن أن يقبل بأي سلام ما لم يكن مضطرا لذلك، وبين من قدموا التنازلات تلو التنازلات ومستعدين لتقديم المزيد منها على حساب الدم الفلسطيني والقضية الفلسطينية، ولا سيما القدس والمهجرين. بين من يقفون وراء المقاومة، ومن يريدون القضاء على المقاومة،ولو عن طريق إبادة الشعب الفلسطيني في غزة. بين من يقاومون، ومن تخلوا عن المقاومة للعب دور الوسيط بين العدو (وهو عدو للجميع)، وبين المقاومة. بين الذين  يتعرضون للاذلال على موائد السلام وهم يقدمون عرائض الاستسلام، وبين القادة الذين  يصدحون " لن نستسلم حتى وإن قتلتم منا الآلاف ".  نحن نريد هكذا قادة، يثبتون ميدانيا أن العروش ليست هدفهم الاول والأخير كما أكدت لنا أفعال من حققوا هزيمة 67 في 6 أيام، وغيرها من الهزائم. وكما يؤكد لنا من يزعم الزعامة، وهو يغرس رأسه كالنعامة، ليس في التراب، وإنما في العار.