درس تركي للعرب
7 صفر 1430
ياسمينة صالح

ما فعله رجب أردوغان على منصة الحوار في المنتدى الاقتصادي العالمي (دافوس) لا يدخل في سياق الشجاعة السياسية فحسب، بل الشجاعة الأدبية لرجل يعرف جيدا أن الصهيونية صارت خطرا حتى على الدول العلمانية التي تحاول رمي أسباب التخلف على أكتاف الإسلاميين، و تركيا العسكرية بجنرالاتها الماسكين زمام الحكم العلماني في البلاد ليست بعيدة عن تلك الدول التي تعتبر الإسلام تهديدا على مكاسب بني علمان (أتاتورك) ! مع هذا خرج رجب طيب أردوغان عن تلك القاعدة المتعارف عليها مواجها رئيس دولة مجرمة بالقول له " سعادتكم بقتل الأبرياء جزء من جريمة الحرب"، فلماذا لم يقلها قائد عربي بتلك الشجاعة قبل أن يقولها أردوغان؟ !

 

العثمانيون الجدد !
لا يختلف اثنان أن تركيا تريد العودة إلى الساحة السياسية في المنطقة من الأبواب السياسية الواسعة، حتى إن كان أردوغان الذي اتهمته القوى السياسية الداخلية في تركيا بالأمس القريب بأنه إسلامي خطير على المكاسب العلمانية ! مع هذا تحقق الهدف الذي عجزت عن تحقيقه أغلب الفعاليات الإسلامية في الدول العربية، و وصل إلى تركيا نظام طابعه علماني و مواقفه عثمانية، و إن كان ما يبدو اليوم حراكا سياسيا جديدا و غير مسبوق في البلاد، فلأن الجيش التركي الذي كان أشد الرافضين لوصول حزب إسلامي إلى الحكم، لا يمكن أن نصدق اليوم أنه أصبح متسامحا، لأن القضية تنطلق من هدف البحث عن مكان استراتيجي يمكن لتركيا أن تلعبه في المنطقة بمحاذاة دول عربية لها حساسيات قديمة إزاء الإمبراطورية العثمانية القديمة لا تكاد تأخذ تصورا أكثر من كونه الحنين الغريب إلى نظام حكم لم يتبلور إلى الآن في شكله الكامل، لا لشيء سوى لأن طقوس السياسة في تركيا لا تختلف عن تلك التي توجد في أغلب الدول الشمولية، بالخصوص العربية منها و أمريكا اللاتينية، أي قبضة الجيش على المسار السياسي الكامل، و الاختباء خلف ستارة مخملية اسمها " الممارسة الديمقراطية" التي لا تعني بأي حال من الأحوال أن الحاكم المرئي هو الحاكم الحقيقي ! إنها الوسيلة الأنسب لفرض هيكلة جديدة على الخطاب السياسي وبالتالي الدخول إلى المنطقة كقوة عظمى لا بديل عنها، و من ثم السيطرة قدر المستطاع على بقية الخيارات الممكنة. فالحزب الحاكم اليوم لن يبقى حاكما مدى الحياة، و ثمة تحضير في تركيا لما يسمى بالتجديد النظامي، الذي يعني نهاية عهدة النظام الراهن و الذهاب إلى نظام مغاير سيكون حتما علمانيا متطرفا، و وقتها تكون تركيا قد وصلت و جلست و تربعت في المنطقة كقوة بديلة لا يمكن زحزحتها سياسيا و لا عسكريا، و هذا لا يشكل في النهاية خطرا كبيرا إلا عند النظر إلى أن الجيش التركي المناهض للإسلاميين حد التطرف له علاقة قوية بإسرائيل، و هو الكلام نفسه الذي قاله الخبير السياسي التركي " أزميل حكمت" في كتابه تركيا القادمة، و هنا مربط الفرس !

 

تركيا القادمة:
يقول الكاتب التركي" أزميل حكمت" أن المواقف التركية الحديثة تثير إعجاب الشباب التركي المتحمس للتغيير، و لكن ثمة نسبة من الشباب الذي يشعر بالإعجاب إزاء الحراك التركي الراهن، و هو في ذات الوقت يرفض أن يكون ضمن سياق إسلامي كالذي يبدو منتشرا في الدول المجاورة، لأن المطلب التركي الأهم هو أن يكون ضمن الإتحاد الأوروبي، أي ربح الرهان في هزم الاعتراض الفرنسي لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، بيد أن تحوّل تركيا إلى قوة استراتيجية في منطقة الشرق الأوسط سوف يجعلها أيضا قادرة على فرض مطالبها الخاصة على الحلف الأطلسي"، و هذا من حقها كدولة تبحث عن مصالحها الخاصة، لكن الواقع أن من بحكم تركيا هم أيضا الجنرالات الرافضين التنازل عن مجرد فكرة تغيير قوانين مدنية تسمح بفتح مدارس إسلامية تعطي للمرأة الحق في الدراسة و العمل بالحجاب، حيث شنت الصحف التركية قبل أشهر فقط حملة واسعة ضد فكرة " المدارس النسائية الإسلامية" التي اعتبرتها بداية خطر محدق بالجمهورية العلمانية ! و إن استطاع الرئيس التركي عبد الله غول أن يفرض صورة الحجاب عبر زوجته، فهو لم يقدر إلى الآن على فرض الحجاب في المؤسسات العامة كحق شخصي يدخل في إطار الحرية التي يتبجح العلمانيون بالدفاع عنها، حيث أن الحجاب بقي إلى الآن " مسألة مرفوضة" كما تقول صحيفة الزمن العلمانية التركية. تم طرد طالبات جامعيات من مقاعد الدراسة بسبب الحجاب.

 

الصورة النمطية التركية لم تتغير في الداخل، و لكن الحراك السياسي إزاء الخارج هو الذي جعل النظام يتناسى ما يدور في الداخل، لأن الهدف التركي في النهاية هو المنطقة، و وضع اليد على الفراغات التي خلفتها النزاعات العربية العربية، و الإسلامية الإسلامية، بحيث لم تعد دولة عربية واحدة قادرة على طرد ذبابة عن أنفها دون الاستنجاد بالقوى الأجنبية لمساعدتها على ذلك، و كما يوجد في لغة السياسة مصطلح الانقلاب الأبيض، يوجد أيضا الاحتلال الأبيض ! قبل عام كتبت مجلة "الكوريير" تقريرا عن السلع الإسرائيلية التي تدخل إلى السوق العربية تحمل علامات تجارية متعددة الجنسيات، و جاء في التقرير أن تركيا هي السوق الأهم بالنسبة لإسرائيل يتم وضع علامات تجارية تركية على منتجات إسرائيلية يتم بيعها في السوق العربية، و تأتي فرنسا في المرتبة الثانية لتغطية السوق الإفريقية، و هو أيضا ما قاله الكاتب " أزميل حكمت": المصالح أكبر من المبادئ في عالم الماديات، على كل الكرة الأرضية !

 

أردوغان، فارس تركيا الجديد:
ما فعله أردوغان لا يمكن بأي حال من الأحوال استصغاره، على العكس، فقد قال الرجل بشجاعة ما كان على الدول العربية قوله منذ ستين عاما، و الأدهى أن أردوغان انتقد بشجاعة إسرائيل أمام الأمين العام للجامعة العربية الذي كان جالسا يتفرج ! أردوغان لم يكتف بقول الحقيقة، بل غضب أمام الجميع عندما مُنع من الكلام، و قال أنه لن يعود إلى هذا المنتدى الذي يمنعه من الكلام، و غادر حاملا كرامته على طبق من ذهب ! لم يغادر الأمين العام للجامعة العربية، بقي مكانه و كأن الدفاع عن الفلسطينيين و عن دم الشهداء أصبح جرما يخاف عمرو موسى من دخوله و لو من باب الحوار فقط !

 

كان السؤال الأهم هو ما الذي كان يفعله السيد عمرو موسى في ذلك المكان أساسا و ضمن جلسته تلك على يمين الصهيوني شيمون بيرز؟

 

تركيا التي تعترف بإسرائيل إن تواجدت فهي جزء من منظومة سياسية اعترفت من قبل بالكيان الصهيوني، و هي عضو في الحلف الأطلسي أيضا، لكن هل اعترفت الجامعة بالكيان الصهيوني؟ الآن، في هذا الظرف الذي تبدو المقاطعة أمرا مهما، مقاطعة كيان لا يعتدي فحسب، بل و يسعد باعتداءاته و جرائمه التي يضعها في خانة الدفاع عن النفس، و كأن 1300 فلسطيني مدني بريء من قطاع غزة لا يساوون شيئا في المنظومة الاقتصادية العربية كي يتواجد السيد عمرو موسى في منتدى دافوس و يبقى في الوقت الذي انسحب فيه أردوغان التركي. فكيف يمكننا أن ندافع عن مكاسب المقاومة التي تبقت كخيار وحيد، في وجود نظم عربية انتهازية تبحث عن مصالحها الشخصية على حساب مصالح شعوبها؟ و إن اعتذر الصهيوني بريز لرئيس الوزراء التركي فلأن تركيا تعرف فرض احترام العالم لها، ليس بانتقادها للصهاينة فقط، بل و لأنها تحافظ على سقف من الغضب الذي يجعلها دولة محترمة أمام دول عربية برد دمها و صارت متعفنة من شدة التنازل و التراجع و الاستسلام حد الانحلال، وصار لزاما الحجر على حكامها بتهمة التسيب و أخذ الشعوب إلى المهلكة !