العائدون من أرض المحرقة.. يروون المأساة
28 محرم 1430
محمد داود







غيوم كثيفة، وسماء معتمة، وبوابات سوداء قاتمة تُعبّر عما خلفها من دمار، وأصوات تتعالى في كل مكان تُشعر بهول الموقف وشدة الظروف.. تلك كانت الحال التي عليها "ميناء رفح البري" الذي يفصل بين مصر وتلك البقعة المباركة من الأراضي الفلسطينية؛ غزة.

هناك في غزة، حيث يقوم فريق لتقصي الحقائق تابع لمنظمة العفو الدولية، بفحص الأدلة لإثبات الجريمة على الجيش "الإسرائيلي"، أشار تقرير أعده الفريق وأصدره الاثنين إلى وجود "أدلة قاطعة على استخدام واسع للفسفور الأبيض في الأماكن المزدحمة بالسكان في مدينة غزة وفي شمال القطاع".

وبين طرقات غزة أدلة أقوى، حيث تجول كريستوفر كوب-سميث خبير الأسلحة العامل ضمن فريق المنظمة. وقال في تقريره: "وجدنا شوارع وأزقة تملؤها أدلة على استخدام الفسفور الأبيض، من بينها قطع ما زالت تحترق وبقايا شظايا وقذائف مدفعية أطلقها الجيش الإسرائيلي".

واعتبرت المنظمة في تقريرها أن "استخدام الفسفور الأبيض المتكرر بهذه الطريقة بالرغم من تأثيره على المدنيين هو جريمة حرب".

شهود العيان.. أطباء عائدون

وعلى الجانب المصري من بوابة معبر رفح، وعند غروب الشمس تأهب مجموعة من الشباب العاملين بـ"اتحاد الأطباء العرب- لجنة الإغاثة و الطوارئ"، ينظرون إلى تلك البوابة السوداء، ينتظرون وفدا من الأطباء المصريين المتطوعين العائدين من غزة.

ولدى وصولهم، وبعد الترحيب الحار والمباركات بدأ الحديث عن المشاهد المؤثرة في تلك الرحلة الفريدة من نوعها.

كان يترأس ذلك الوفد الدكتور محمد أحمد غنيم، أشهر الأطباء المصريين في مجال جراحة المسالك البولية وصاحب أكبر مركز لمعالجة الكلى في الشرق الأوسط، والذي لاقى سفره إلى غزة صدا واسعا فهو يعتبر –كما وصفته الإعلامية المصرية الشهيرة منى الشاذلي في حديثها معه عن رحلته- ثروة قومية.

ذهب الوفد إلى غزة يوم 13 من يناير 2009 في أوج الحرب لمساعدة أهالي القطاع في المستشفيات، وتركز معظمهم في مستشفى الشفاء (شمال القطاع)، وبعضهم خدم في أكثر من مستشفى ووحدة صحية.

 

حروق متفحمة وأسلحة محرمة

وتحدث معظم الأطباء عن الأسلحة المحرمة دوليا التي يستخدمها جيش العدو الصهيوني والتي كانت تظهر في معظم حالات الإصابة بل والوفاة.

القنابل الفسفورية والعنقودية هي الأكثر استخداما من ضمن هذه الأسلحة، والتي كانت إصابتها جسيمة على حد وصف د. غنيم، الذي قال في تصريحات خاصة لـ"المسلم": "اليهود يستخدمون أسلحة محرمة دوليا على رأسها قنابل غاز الفسفور الأبيض، الذي يسبب إصابات شنيعة لأنه يظل مشتعل طالما لامس الهواء الجوي".

والفوسفور الأبيض مادة شديدة الاحتراق تشتعل بوميض ساطع جدا ولفترات طويلة. وتستخدم المادة في أحيان كثيرة لصنع ستائر دخان لتغطية تحركات الجنود في الأماكن المفتوحة، لكن يمكن استخدامها أيضا كسلاح يسبب حروقا بالغة وتشوهات إذا لامس الجلد، وقد استخدمته القوات "الإسرائيلية" بالفعل في الأماكن السكنية ما أسفر عن إصابات وتشوهات لدى العديد من المصابين الفلسطينيين.

أما السلاح الثاني الذي استخدمته القوات "الإسرائيلية" في الأحياء السكنية المكتظة بالسكان فهو ما يطلق عليه "القنبلة الذرية الصغيرة" (Baby Atomic Bomb) وهي -بحسب وصف د. غنيم- "قنابل شديدة الانفجار تستخدم ضد الأفراد وفي الغالب تؤدي إلى بتر الأطراف ودائما يصحبها صدمة شديدة جدا، وغالبا تنتهي حالة المصاب بالوفاة".

أما الدكتور ياسر بريك الذي ذهب إلى القطاع أيضا ضمن وفد اتحاد الأطباء العرب، فقال لـ"المسلم" إن الحالات المصابة يغلب عليها الحروق الشديدة من الدرجة الثالثة والتي كانت معظمها بسبب القنابل الفسفورية". وأضاف أن "الحالات مأساوية بكل ما تحمل الكلمة من معنى؛ فمنظر جثث أم وأربع أطفال منتشلة من تحت الأنقاض وأجسادهم متفحمة تماما، ومئات الجثث المبتورة أعضائها والتي لا يرى من معالمها شيئا- أكبر شاهد على وحشية الجيش الصهيوني".

كما أضاف أنه في تلك الفترة القصيرة التي قضاها في مستشفى الشفاء بغزة لاحظ أن نسبة الأطفال مرتفعة بين عدد الشهداء، مشيرا إلى أنها تصل إلى نحو 35% من إجمالي عدد الشهداء، كما أن عدد النساء أيضا مرتفع بين الشهداء والجرحى.

 

انضباط وصمود

وبالرغم مع تفرق وفد الأطباء المصريين في الأماكن والتخصصات إلا أنهم اتفقوا جميعا على نقاط أساسية، توحد عليها حديثهم. فمعظم الأطباء يرون مميزات أساسية يمتاز بها أطباء غزة على الخصوص وأهل غزة على العموم ألا وهي الانضباط والالتزام في العمل والإخلاص في أداء مهامهم. ذلك الانضباط الذي لم يعهدوه "إلا في مستشفيات ومؤسسات الدول الكبرى"، والذي اعتبروه من مقومات النصر، كما يصفها أحد الأطباء.

وعبر د. غنيم عن دهشته من حالة المستشفيات، قائلا: "لو أن هذه الظروف وقعت في إحدى الدول المتقدمة لأصاب المستشفيات حالة من الارتباك والتوتر تُخِل أحيانا بالعمل، إلا أن هناك حالة من الهدوء والنظام سادت في كل مستشفيات القطاع، وهذا ما يبعث على الدهشة".

واتفق الدكتور ياسر مع زملائه الأطباء العائدين، على أن أهل غزة يمتازون بحالة مثيرة من الصمود أمام تلك المذابح والمحارق، حتى إنه لم يذكر أنه سمع صوت نحيب أو صراخ على الشهداء بل كان الصبر والثبات من معالم أهل غزة.

 

محاكمة مجرمي الحرب

كان د. غنيم قد أكد أنه حصل على بعض العينات الطبية التي تشير إلى استخدام الفسور الأبيض ضد المواطنين الفلسطينيين في الأحياء السكنية، وقال إنه سيعمل على تحليلها في معامل طبية متخصصة لإثبات استخدام تلك المادة المحرمة دوليا، وإثبات الجرائم الدولية التي يرتكبها العدو الصهيوني ضد أهالي قطاع غزة.

ونادت منظمات حقوقية وجمعيات المجتمع المدني في كثير من الدول العربية والغربية إلى محاكمة الساسة الصهاينة وقيادات الجيش الذين سمحوا باستخدام الأسلحة المحرمة دوليا ضد المدنيين، أمام محكمة جرائم الحرب الدولية.

كما قالت مصادر سياسية "إسرائيلية" إن التهديد الأساسي بتقديم دعاوى ضد (الاحتلال) بارتكاب جرائم حرب، سيكون من طرف أفراد ومنظمات وليس من قبل حكومات. واعتبرت أن زيارة الزعماء الأوروبيين لتل أببيب الأحد وخطاباتهم التي بررت الحرب ستساعد "إسرائيل" في صراعها القضائي".

وفي داخل الكيان الصهيوني، تأخذ المنظومة الأمنية هذه الدعاوى على "محمل الجد"، حيث بدأت مجموعة من رجال القانون بإعداد عرائض دفاع وجمع معلومات ودلائل حول المنازل والمنشآت التي دُمرت في غزة، لاستخدامها في الدفاع عن مجرمي الحرب "الإسرائيليين".

وأصدرت الحكومة الاثنين تعليمات لضباط الجيش والمسؤولين السياسيين بمراجعة النيابة العسكرية قبل الإقدام على السفر للخارج، مشيرة إلى أن بعضهم قد يمنع من السفر خشية تعرضهم للاعتقال على خلفية دعاوى بارتكاب جرائم حرب في محكمة الجنايات الدولية أو في بعض الدول الأوروبية التي تتيح قوانينها تقديم دعاوى جرائم حرب حتى لو لم تكن طرفا فيها.

وبين التحركات الشعبية والصمت العربي الرسمي، تبقى الجريمة قائمة، فيما تبقى أيضا آثار المحارق والجروح شاهدة على الجرائم، رافضة أن تندمل، لتذكر العالم بأن دما غاليا أهدر دفاعا عن تلك البقعة المباركة.