إنهم يحتكرون الحق !

 

عبد الحميد الكبتي

من الأمور المهمة والتي تحتاج إلى نوع من التوضيح، هو ما نطلق عليه "الاختلاف"، والذي يوحي في معناه القرآني بشيء من التكامل والتناغم، كما في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ} [فاطر:27].

فالاختلاف ظاهرة كونية جمالية، وهو لا ينفك عن إرادة الإنسان وتركيبه؛ لذا قال ابن القيم في كتابه إعلام الموقعين: "وقوع الاختلاف بين الناس أمر ضروري لابد منه؛ لتفاوت أغراضهم وأفهامهم وقوى إدراكهم، وهو من رحمة الشريعة الغراء، كي تستمر في العطاء بحسب الظروف والأحوال والبيئات على اعتبار صلاحها لكل زمان ومكان".

ومع أن الاختلاف أمر ضروري ومظهر جمالي في الكون والإنسان، ومعلم من معالم الشريعة وسعة لها؛ فإن البغي في الاختلاف يتخذ صورا كثيرة متعددة، أخطرها ما تدور عليه هذه المقالة، وهي مسألة "احتكار الحق"! حيث إنه مرض خطير إن وجد في أمة من الأمم حكمت على نفسها بالتقوقع والهلاك عاجلا أم آجلا، فكيف لو وجد هذا المرض في خير أمة أخرجت للناس، والتي حمّلها الله أمانة هذا الدين وتبليغه للناس كافة؟!

ويمكن القول إن احتكار الحق هو: زعم المرء أو الجماعة أو المجتمع أنه يمتلك الحقيقة والصواب في رأيه، دون الطرف الآخر، وممارسة السلوكيات العملية التابعة لهذا الزعم، بما يعمق في فكره أنه على الحق، وغيره مجانب له.

واحتكار الحق في عمومه يمنع بناء أي أرضية للحوار أو الرقي لأي فرد أو جماعة أو مجتمع، وإذا وجد هذا النوع من المرض الفكري والنفسي فلا أمل في أي تطوير أو نهضة أو تماسك في بنيان أي أمة من الأمم.

إن محتكر الحق لسان حاله ومقاله يقول: رأيي صواب لا يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ لا يحتمل الصواب، وهذا من البغي الذي ذكره الله تعالى في كتابه: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} [الشورى:14]، والذي يقود لمزيد من التفرق النفسي والفكري في الأمة، لذا أكد القرآن الكريم على بناء أرضية مشتركة حتى مع الذين يخالفوننا في أصل الدين فقال تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [سبأ:24].

أما عن أسباب ظهور هذا المرض، فمنها ما يتعلق بالجانب العلمي، ومنها ما يتعلق بالأفراد، ومنها ما يتعلق بالبيئة أو الجماعة أو المجتمع.

أسباب تتعلق بالجانب العلمي

1. قلة الوعي بفقه الاختلاف في الشريعة الغراء، وحمل الاختلاف الوارد في كتب أهل العلم على أنه كان قبل توفر الدليل على المسائل!

2. الأخذ من النصوص مباشرة من قبل حديثي العلم، وترويج بعض المشايخ لهذا الأمر، وعدم الرجوع إلى اجتهادات أهل العلم في المسائل.

3. تهميش ضوابط الاجتهاد التي تكلم عنها أهل العلم فيمن يتصدر للاجتهاد، والجرأة على الاجتهاد لكل من هب ودب.

4. حصر الإفتاء في المسائل الفرعية في مذهب معين، والزعم أن الدليل معه، وعدم مراعاة اختلاف الأقطار والبيئات وعادات الناس وأحوالهم.

5. الترويج لمسألة الأخذ بالدليل -وهذا حق- دون الترويج للتراث الفقهي والفكري الكبير لعلماء الأمة، الأمر الذي حصر المستفيدين من هذا التراث في فئة معينة، وتصدر الآخذين بالدليل بزعمهم للدعوة والإفتاء.

أسباب تتعلق بالفرد

1. نشأة بعض الأفراد على الاعتداد برأيه، وإن غطاه صاحبه بالدليل ونحوه، وهذا يرجع لأصل النشأة والتربية دون النصوص.

2. الحدية في الأمور، فلا يعرف إلا الأبيض والأسود من ألوان الحياة، دون بقية الألوان التي ترى والتي لا ترى.

3. الحماسة دون الوعي، وهذا غالبا يفسد أكثر مما يصلح، وتأتي نتائج حماسته مدمرة في أحيان كثيرة.

4. الإمعة والتقليد، بحيث ينشأ المرء على نمط معين، لا يستطيع الفكاك منه، ويصبغ به شخصيته.

5. البساطة في الفهم، وقلة العلم، والتعلق بظواهر الأمور والنصوص دون عمق.

لقد عمد أحد هؤلاء إلى جمع كتب ابن حجر ومنها فتح الباري، وكتب النووي ومنها شرح صحيح مسلم، وجمعها في مكان وصب عليها الوقود وأحرقها، بحجة أن الإمامين قد أخذا بمذهب الأشاعرة في بعض المواطن وأوّلا صفات الله عز وجل.

ومن نفس التركيبة من سمعته يقول عن سلطان العلماء العز بن عبد السلام بأنه "العنز بن عبد السلام"؛ لكونه ليس على رأيه! والأخطر أن أصبحت هذه الخلطة النفسية العجيبة سببا في نزف الدماء الطاهرة، وترويع الأنفس الزكية، وإهدار الطاقات الكثيرة.

أسباب تتعلق بالجماعة والمجتمع

1. زراعة العنصرية في الجماعة فكرا وعملا، والزعم أنها هي الأولى بالاتباع، لما تملكه من خصائص، لا تتوافر في غيرها!

2. تكوين عقلية أبناء الجماعة على الولاء التام دون قيد أنملة، ومهما كانت الظروف، دون أن يكون الولاء للشرع.

3. تضخيم خصائص الجماعة وما تتمتع به، مثل كون المجتمع الفلاني هو مهبط الوحي، أو منارة للعلم وغيرها من الأمور التي تجعل هذه الخصائص هي المحور الأول في عقلية الأفراد والجماعة.

4. إشاعة روح التحقير المقصود وغير المقصود للآخرين، وعرض العضلات الذاتية دون أي وعي.

5. التعصب لأفراد الجماعة مهما يكن الأمر، دون سند قوي، مع تتبع بعض الأوهام التي زرعها الإعلام الموجه.

 

كيفية علاج هذا المرض

لا يمكننا بأي حال علاج مرض احتكار الحق علاجا جذريا، خاصة أنه قد استشرى في الأمة وفي كثير من علمائها، لكن يمكن التوقف عند مجموعة من الحلول الآتية:

1. تربية الأفراد والجماعات على قيمة التواضع الحقيقي دون استصغار للنفس أو الحد من طموحها، وعدم ادعاء شيء أكبر من واقعنا الحقيقي.

2. التعمق في الدارسات التاريخية والاجتماعية والنفسية؛ للكشف عن سنن الله في الكون وفي الآفاق والأنفس، حتى يمكننا التمييز بين المقدمات والنتائج في حركة الكون والنفس، ونعي مؤثرات كل منها.

3. الانفتاح على الرأي الآخر، وعلى مجتمعات أخرى، وبيئات متنوعة، وشخصيات مختلفة، الأمر الذي يثري فينا ظاهرة الاختلاف الكوني، ويبعدنا عن عقلية البعد الواحد.

4. التحلي بالعلم المنهجي لدفع الأهواء من النفوس، والجهل من العقول.

5. الحوار المستمر، وعدم الظن أننا على الصواب ابتداء؛ لأن ذلك يمثل إغلاقا للعقل في أول أبوابه.

6. القدرة على قبول أن نتخلى أو نفقد بعضا مما عندنا في سبيل شيء أهم ومصلحة أعظم.

7. العدل في الميزان، والقسط في الأحكام، والتربية على تقوى العقول قبل القلوب.

8. ألا يعتقد أحد أن الفرقة الناجية محصورة على من يشاركه في الرأي دون غيره، وإنما مساحتها واسعة رحبة، تجمع كل المتفقين على "أصول" أهل السنة والجماعة؛ لأنه ليس من حقه ولا من حق غيره أن يحتكر الحق والصواب في مسائل الاجتهاد.

9. إن مجالات الاجتهاد في الفروع وفي وسائل الدعوة وفي مناهج العمل الإسلامي، لا تعطي الأحقية لأحد أن يدعي احتكارا للحق.

لقد طلب أبو جعفر المنصور من الإمام مالك أن يكتب كتاب الموطأ ليحمل الناس عليه لكن الإمام مالك أجاب بأن أصحاب رسول الله تفرقوا في الأمصار، وربما معهم من الحديث والأحكام ما لم يكن قد بلغه، وإن لأهل هذا البلد أي مكة قولا، ولأهل المدينة قولا، ولأهل العراق قولا قد تعدوا فيه طورهم.

وعاود نفس الرغبة من بعده هارون الرشيد لكن الإمام مالك كان يرفض دائما أن يحمل الناس على رأيه حملا، كما رفض كذلك طلب هارون الرشيد تعليق الموطأ في الكعبة ليحمل الناس على ما فيه.

رحم الله علماء وربانيي هذه الأمة الذين كانوا في قمة العلم، لكنهم كانوا في غاية التواضع؛ لأنهم كانوا يعلمون أن من يحمل الكبر في نفسه يحمل الاحتكار في رأسه.

(( المصدر : إسلام أون لاين - بتصرف يسير ))