أطباء عائدون من غزة ..ذهبنا كي نثبتهم ..فثبتونا هم !!
24 محرم 1430
إيمان يس

إذا كنت طبيبا فمن المؤكد أنك تحمل على عاتقك أمانة أكبر وأنت تنظر إلى جرحى مزقت أجسادهم أحقاد بني صهيون ، وتتمنى أن تغمض عينك لتجد الحدود والسدود قد زالت لتلتحم بأهل الرباط وتنال شرف تضميد جراحهم ،  لعل هذا ما دفع عددا من الأطباء إلى مواصلة الاعتصام أمام معبر رفح الحدودي الفاصل بين قطاع غزة ومصر مؤكدين أنهم لن يغادروا حتى يسمح لهم بالمرور ؛ استمر الاعتصام 3 أيام حتى سمحت السلطات المصرية في السابع من يناير بدخول أول وفد من الأطباء العرب للمساهمة في تخفيف آلام الهولوكست الصهيوني الذي حل بغزة جراء القصف الذي بدأ في السابع والعشرين من ديسمبر الماضي واستمر 22  يوما متواصلا .

 

وبعد عشرة أيام قضاها أعضاء الوفد وسط النيران ؛ عادوا وفي جعبتهم الكثير من مشاهد الأسى التي تختلط بعزة الصمود حملوها إلينا من أرض غزة .

بداية يؤكد الدكتور باسم الكسواني أمين سر نقابة أطباء الأردن ورئيس لجنة المقاومة والتطبيع في اتحاد الأطباء العرب ؛ أنهم شاهدوا في هذه المجزرة مالم يشاهدوه طيلة حياتهم ، وقال : " نعجز عن وصف ما رأيناه فحالات البتر والحرق حتى التفحم هي التي تتحدث !!"

 

وبمرارة يتذكر الكسواني لحظات تكدس الجرحى في سيارات الإسعاف وفي قسم الطواريء بالعشرات من عائلة واحدة

ويؤكد الكسواني استعمال القوات الصهيونية للفسفور الأبيض الذي ينفرد بخاصية اشتعاله من جديد عندما يرفع من التراب ويلامس أوكسوجين الهواء الجوي ، ولم يكتف الحقد الصهيوني بهذا ، فهناك أسلحة أخرى استخدمت في هذه الحرب لم يستطع الأطباء التعرف عليها بعد .

 

ومن هنا يطالب الكستواني بتشكيل لجنة تحقيق من أطباء شرعيين عرب وأوروبيين لكشف حقيقة هذه الأسلحة فلا يجوز أن ينجو أولمرت وليفني وباراك من هذه الجرائم دون عقاب .

صورة أخرى لآلة الحرب الصهيونية التقطها الكستواني من ذاكرته قائلا : " إحدى سيارات الإسعاف كانت تحمل جرحى من ذوي الحالات الحرجة وقد زودناه بجهاز تنفس ، فقام أحد الجنود بإيقاف سيارة الإسعاف لمدة 45 دقيقة دون سبب !!، وفجأه أطلق طلقة في الهواء ليرهب السائق عله يتراجع ، وأخيرا سمح له بالمرور على أن يسير بسرعة 10 كيلو مترات !! 

 

وكشف كستواني النقاب عن تباطؤ منظمة الصليب الأحمر و ضعف دورها بشكل لم يره في أي بلد من قبل ؛وأضاف ليس فقط الصليب الأحمر بل جميع المنتظمات الدولية حتى الأونوروا ، مطالبا لهم بدور أكثر فعالية فليس من المعقول أن تضرب مقرات الأونوروا ويصاب بعض أفرادها في حين يتوقف دورها عند التنديد !!.

 

كما ناشد الحكام العرب بالحفاظ على غزة " التي توزع الكرامة على الجميع " مؤكدا أن دور الشعوب وحده لا يكفي فهناك مهام لا تطيقها الشعوب وعلى الحكومات أن تتحمل مسؤولياتها ؛ ومؤكدا كذلك على حتمية المقاطعة الشعبية والدبلوماسية لهذا الكيان الغاصب ومشيدا بدور شافيز الذي طرد السفير الصهيوني ومستنكرا تأخر هذه الخطوة من جانب الدول الإسلامية .

 

وفي السياق ذاته أكد الدكتور محمد الرفاعي أن محارق غزة أصبحت غنية عن التعريف ، فللأطفال محرقة وللنساء محرقة وللشيوخ محرقة !! ، حتى اختلطت الأشلاء وبات من الصعوبة معرفة أصحابها !! فالصورة ترسم فضيحة دولية بكل المقاييس ، وتعيد إلى الأذهان مجازر صبرا وشاتيلا ودير ياسين .

 

وطالب الرفاعي شعوب الأمة بأن يغرسوا في أبنائهم مشاهد هذه المجازر حتى يأخذوا بالثأر عندما يأتي أمر الله ، عندها سيكون أمر الله مفعولا .

وأكد كذلك أن قطاع غزة لن يهزم ولن ينكسر ، فهم يقتاتون على البقوليات ( خاصة الحمص ) حيث الخضروات واللحوم شبه معدومة ، ولا خبز ولا أي طعام آخر ،  إلا أنهم يعيشون قمة الصمود والسعادة والإيمان بالله ، فقد ذهبنا لنثبتهم فثبتونا !!.

 

ويختصر الرفاعي حكاية غزة في قصة عايشها قائلا :" شاب ليس في جسده إلا جرح صغير إلا أن جميع أحشائه الداخلية ممزقة ؛ الرئة .. الأمعاء .. الكبد .. كل شيء ، مما يدل على استخدام أسلحة كيميائية تدخل إلى الجسد ولا تخرج منه وتتحلل بداخله محدثة هذا النزيف وهذا الدمار ، يتابع الرفاعي : وما هي إلا لحظات حتى توفي الشاب فشعرنا بالحرج الشديد من والدته التي لم تر في جسده إلا جرحا صغيرا فكيف لم نستطع علاجه ، وعلى استحياء أخبرتها إذ لم يكن من المعقول أن نخفي عنها الخبر ، ففاجأتنا بأن زغردت وحمدت الله قائلة : اليوم عرس ابني ، اليوم عرس الشهادة !! . هذه هي حكاية غزة جرائم حرب ممزوجة بمبشرات النصر"  .

 

أما الدكتور عبد الرازق العبسي فقد أخذ يعدد أنواع قذائف آلة الإجرام الصهيوينة ، مؤكدا أنها جميعا تتعمد إحداث إصابات أقلها البتر ، فأعداد هائلة من المواطنين فقدوا أطرافهم السفلية بالإضافة إلى أحد الأطراف العلوية !!

وعن المشهد الذي لا ينساه العبسي قال : جاءوا لي بطفل متفحم وقد نهشت الكلاب بعض أجزاء من جسده ، كما لن ينسى العبسي زميله الطبيب الذي فوجيء بجميع أفراد أسرته يلقى بهم على أسرة المستشفى وبين طرقاتها وهم جرحى جراء قصف منزله ، فاسرع محاولا إنقاذ أخيه إلا أنه لفظ أنفاسه بين يديه .

 

وقد تمنى العبسي أن يجد رصاصة أو أي آثار لإطلاق رصاص في جسد جريح أو على الأقل أن يرى مكان دخولها وخروجها !! ، لكن هذا لم يحدث ، فآلة الدمار المجرمة لا تستخدم غير الصواريخ التي أقلها ما تطلقه الإف 16 التي تلقي في كل قذيفة  بألف كيلو من ال( تي إن تي ) علما بأن 4 كيلو فقط من هذه المادة كفيلة بقتل العشرات ! ويضيف العبسي : لم تبق لنا صواريخ الحقد عملا نقوم به إلا البتر أو تركيب مثبتات خارجية ، ولم تترك لنا مجالا للتدخل بعلاج جراحي .

ويؤكد العبسي كسائر زملائه أن على صمود غزة قائلا : لن يقهر شعب مرابط ، فقد دخلنا وفي أنفسنا شيء من الخوف وهم من ثبتونا ودفعونا للأمام ، ولذلك يطالب العبسي بضرورة نصرة أهلنا في غزة مؤكدا أن المواد الغذائية والدوائية تنتهي صلاحيتها وهي ما تزال تنتظر الإذن بالمرور عبر رفح أو المعابر الصهيونية !!

 

وبدوره يؤكد الدكتور أحمد عبد العزيز أستاذ جراحة العظام أن ما يقوم به الأطباء ليس أكثر من الواجب مؤكدا أن الإصابات التي رآها " منتهى العجب والوحشية " ، مضيفا : لقد فقدنا التمييز بين أصوات القذائف ولم نستطع تحديد أماكنها فهي متزامنة ومستمرة ليل نهار فهذه قذيفة أباتشي والأخرى من الزنانة والثالثة من البحر !!

 

وعن سبب تعجب عبد العزيز من الجروح يقول : " أجساد الجرحى كانت كالإسفنجة يرشح منها الدم ، ورغم وفرة أكياس الدم وتزويدنا المستمر للجريح به إلا أن جسده يظل يرشح حتى يرتقي شهيدا ، ويؤكد عبد العزيز أن هذا يدل على استخدام أسلحة كيميائية لها القدرة على الذوبان في الجسد وتسميمه ، ومما يؤكد ذلك أيضا عدم وجود منافذ لخروج القذائف وكذلك عدم وجود أي آثار لها في الأشعات الضوئية التي يتم عملها على كامل الجسد مما يؤكد أنها قد ذابت في داخله " ويضيف " إن مخلفات هذه القذائف تسبب فشل في الكلى والكبد وتلف لعضلة القلب "

 

كذلك يعجب عبد العزيز من الكميات التي تلقى بها هذه الأسلحة : " كأنها لا تكلفهم شيء وكأنهم لا يدفون ثمنها !! ، أو كأنهم حصلوا عليها مجانا ليجربوها على أهل غزة وفي مقابل ذلك لهم مكافآت أخرى "

ولم يعجب عبد العزيز من الإصابات ومن كميات القذائف فقط ، فقد عجب أيضا من أخلاق هذا الشعب المرابط ، فمن يحتاج إلى بتر يعد نفسه من أهل العافية ؛ فهناك من تفحم نصفه السفلي تماما وامتلأ العلوي بالشظايا ، ومن إصابته دون التبر يستحي أن يحجز مقعدا في المستشفى ويشغل الأطباء عن آداء مهامهم فغيره أولى بالعلاج !!

 

لكن عبد العزيز يعود من عجبه مؤكدا أن الوحشية ليست غريبة على بني صهيون كما أن الصمود ليس غريبا على أهل الرباط . سائلا الله أن يرفع عن الأمة إثم التخاذل والاكتفاء بالمشاهدة والحسرة .

وعلى عكس ما رواه الجميع من مشاهد الآلم آثر الدكتور حسام البصراطي ـ طبيب أنف وأذن ـ  أن يصف هذه الأحداث بأنها عيد !! قائلا : " أليس عيدا أن يصدق الله وعده ويعز جنده وينصر عباده !!" مؤكدا أن عباده هؤلاء قد صدقوه لما عرفوا طريق الهداية وساروا عليه  فكان نصره لهم نتيجة حتمية لمن يسلك هذا الطريق .

 

ورغم عدم توازن القوى وقلة العدد والعتاد إلا أن البصراطي أكد أن النتيجة الاستراتيجية التي سنلمسها قريبا وسيرصدها التاريخ كما رصدها القرآن من قبل هي " كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله "

والبصراطي لم يستوقفه مشهد الدماء ؛ إنما استوقفه مشهد شعب لا يعرف الطبقية ، فمن عامل النظافة إلى مدير المستشفى ، ومن مستشفى كمال عدوان في رفح إلى مستشفى الشفاء في قلب غزة ، نفس المشهد وكأنهم نفس الأشخاص ، الجميع يعمل تحت راية واحدة ، فمدير المستشفى يتجول ليل نهار بين الممرات يراقب سير العمل ويشارك فيه ، حتى في اللحظات التي يخططفونها لمتابعة الأخبار جميعهم يجلسون متلاصقين ، فقد وسعتهم المقاومة ، وكتبت على جباههم عش عزيزا أو مت وأنت كريم .

 

"وتأبى أخلاق الكرام إلا أن تحفونا من جودها "؛ يقول البصراطي ؛ ويضيف "مع أنهم رأس الحربة وشرف الأمة فقد اختاروا لنا أفضل الأماكن للنوم والراحة وقدموا لنا أفضل ما لديهم من طعام ، قائلين يكفي أنكم تركتم عياداتكم وأولادكم وجئتم إلى هنا لا يعلم أحدكم أيعود أم لا وإن عاد فقد يكون مصابا "

وعن الموقف الذي لا ينساه البصراطي يقول : " كنت متعبا واحتجت إلى دواء وذهبت لشرائه من صيدلية مجاورة للمستشفى فوجدت كل شيء معتم نسيت أن الكهرباء ممنوعة هنا ، وبصعوبة استطعت الوصول لرجل يجلس بجوار زوجته وأولاده وقد اتخذ من ظهر بيته صيدلية ، فطلبت الدواء وعلم من لهجتي أني مصري ، فسألني ، فأجبته أني طبيب وجئت لعلاج الجرحى ، فرفض أن يأخذ ثمن الدواء ، ولم أجد سبيلا للإلحاح عليه إلا أن ذكرته بالحصار وبحاجة أولاده ، إلا أنه استمر في رفضه قائلا : الله يرزق الله يفرجها "

 

ويضيف : " رأيت شعبا لم تنسهم الآلام ذكر ربهم فرغم تهشم الجماجم وخروج المخ منها ، وبقر البطون واندلاق أمعائها ؛ يروي لي زميلي المسعف عن جريح حمله في سيارة الإسعاف وقت صلاة الجمعة فأبى أن تفوته الصلاة ولم يجد إلا أن يقوم ـ وهو الجريح ـ بإلقاء خطبة الجمعة حتى وصل إلى المستشفى "

أما حاتم المعتصم ، طبيب عيون ، فيرى أن الله قد شرفه بدخول غزة ، كما أنه يشيد بالصلابة النفسية التي يتمتع بها الجميع ، فالأم تحمل شهيدها ، والأخت تحمل جريحها بثبات ورضى بقضاء الله بلا انكسار ولا هزيمة ، فالإنفعال فقط في الدعاء على المحتل

 

ويضيف :" كنا نستصغر أنفسنا بين زملائنا في المهنة وليس فقط بين الأبطال المحاربين ، فهم يتمتعون بكفاءة عالية جدا في طب الطواريء ، كذلك رجال الإسعاف يخرجون عند سماع القصف بروح مبادرة عالية وبصلابة لا نعرف من أين لهم بها ، فلم يكن ينقصهم إلا العدد ونسأل الله أن نكون قد كفيناهم فيه "

ويؤكد الدكتور إبراهيم الزعفراني أمين عام لجنة الإغاثة والطواريء باتحاد الأطباء العرب ؛ أن وفود الأطباء إلى غزة ستستمر لمدة 6 أشهر على أقل تقدير ، فقبل يومين وصل الوفد الثالث ، وغدا سينطلق الوفد الرابع ، وسيتم تنظيم عودة الوفود وارسالها بما يضمن استمرار العمل بأفضل شكل ممكن .

 

كما يؤكد أن عدد الأطباء العرب الذين دخلوا غزة حتى الآن وصل 150 طبيبا من بينهم 100 طبيب يحملون الجنسية المصرية والباقي من جنسيات مختلفة ، وأكد أيضا أن هناك الآلاف من الأطباء ينتظرون دورهم على أحر من الجمر ، فالاتصلات وطلبات الانضمام تتزايد يوما بعد يوم من كافة أنحاء العالم وليس فقط من الدول العربية

وقد زف الدكتور الزعفراني البشرى للطبيبات بفتح باب المشاركة بدءا من اليوم .

 

وطالب الزعفراني بسرعة السماح للجرحى بالمرور عبر معبر رفح لتلقي العلاج في مصر حيث أن إمكانيات مستشفيات القطاع لا تكفي لما يزيد عن 5000 جريح !! مؤكدا أن اتحاد الأطباء العرب سيتحمل نفقات علاجهم ، ومشيدا بالعطاء المتدفق من كل البلاد العربية ومطالبا لهم بالاستمرار .