غزة.. تُبعثر ملفات التحالف العالمي!
17 محرم 1430
د.ياسر الشهري

(لا تحسبوه شرا لكم) ليست للتخدير، ولكنها دعوة للثبات، ومزيد من الاجتهاد والمجاهدة والمصابرة، وهي تلفت الانتباه إلى الجوانب الإيجابية التي تحملها الأحداث المؤلمة ولا يهتم بها "الإعلام السطحي" أو يلفت الانتباه إليها.
عندما سالت تلك "الدماء الزكية" على أرض "غزة الصامدة" تبعثرت -بأمر الله سبحانه وتعالى- ملفات نُسجت عبر السنوات السبع للحرب على الإرهاب، وبددت جهودا دولية وإقليمية ومحلية؛ بذلت في داخل المجتمعات المسلمة محاولة إيهامنا بأن مشكلاتنا ليست من داخلنا، ومحاولة إقناعنا بأن مصيرنا بيد غيرنا، وأن نجاحنا وتطورنا منوط بالامتثال لأوامر عدونا، واليوم هدمها الله.

 

أكبر هذه الملفات التي نُسفت (ملف التطبيع)، الذي صُممت إستراتيجيته في داخل المجتمعات العربية، وتستهدف بناء (العوازل) حول الكيان الصهيوني (السرطاني)، وتجريد الأمة من كل معان الاستقلال.   
هذا الملف الذي اعتمد في تضخيمه على "سياسة التفتيت" (إشغال الرأي العام بقضايا الشأن المحلي الهامشية)، وإقامته على أنقاض فكرة الأمة المتراحمة والمتكافلة (الجسد الواحد).. هدم -والحمد لله-.

 

صواريخ الصهاينة فجرت من جديد شعور الجسد الواحد، وأحبطت "حملات التفتيت" التي مورست في مجتمعات المسلمين، فخرج المسلمون من صمتهم، ليس للصراخ والشجب والاستنكار؛ وإنما للدلالة على انبعاث فكرة الجسد الواحد من جديد، وعودة الروح الأممية، رغما عن أنف المستنزفين لطاقات الأمة في قضايا أقل أهمية.

 

وأغلق ملف أخر، لم يكن لُيغلق بسهولة؛ إنه (ملف تلميع القيادات السياسية العربية)، فقد فضح الحدث أطرافا عربية متعددة لا تستحق أن تقود الأمة في صراعها المصيري مع الصهاينة المحتلين، بل كشف الحدث بجلاء عن التواطؤ المنظم مع حرب الإبادة والاستئصال، وثبت أن الصمت العربي عن الحصار والتجويع جزء من الاستراتيجية التي أعدت لتهيئة العرب للتطبيع مع إسرائيل، ولم يعد يعوق تنفيذها إلا صمود (المجاهدين) في غزه، ويتضح ذلك في مواقف هذه القيادات من (حماس)، حتى مع هول الأحداث وضخامتها كانت التهم توجه للذين لا يريدون الاستسلام!، ولن ينس المراقبون قول (أولمرت) لعباس "إما أنا وإما حماس"! والذي تحول إلى سياسة يُعمل بها في الفعل السياسي الفتحاوي.

 

نعم، انكشفت الآلة الإعلامية العربية، وسقط القناع الذي كانت تحجب به حقيقة بعض القيادات السياسية العربية، لأن الحدث كشف عن تبني بعضهم لوجهة النظر الصهيونية، وكشف عن وجود مصالح مشتركة مع الكيان الصهيوني حولت أدوات الضغط العربية (الاستثمارات، الأموال، النفط، الأسواق،...) إلى قربان يُقدم لطلب الرضا دون مقابل أخر!.

وأغلق (ملف التخويف بالقوة الصهيونية) أمام قوة الإيمان، فالعالم يقيس الحدث بعدد المتوفين فيه، وأهل غزة يقيسون الأمر بعدد الشهداء الذين أختارهم ربهم ليفوزوا بموعود الله للصابرين والمجاهدين في سبيله.

 

إن القوة الصهيونية سقطت لأن عقلاء الأمة عادوا-من جديد- لينادوا بالخيار الاستراتيجي لها (الجهاد)، وهي الثقافة التي لا زالت تؤرق العالم، وكان يحذر منها رئيس مجلس الأمن القومي الصهيوني السابق (غيورا آيلاند) بقوله: "يمكن تحقيق الانتصار إذا كان لدى الطرف الأخر ما يخسره"! وهو يشير إلى أن حماس لا تخسر بالقتل، فماذا يعني القتل والدمار إذا كانت نتائجه إصرار وثبات، وهذا بعينه ما جعل المخططون للحرب على الإسلام يستهدفون تمييع وتجفيف ثقافة الجهاد، التي تنتج فكراً تختل معه موازين الفوز والخسارة، وتتبدل فيه مفاهيم الحياة والموت.

 

ومن غزة، أيضا، أغلق (ملف تكريس الضعف والعجز العربي) الذي صنعته آلة الدعاية العربية، حتى في أثناء الحدث منحت بعضا من وسائل الإعلام العربية فرصا ذهبية للصهاينة ليشرحوا لنا مبررات إرهابهم، ويخاطبوننا من موقع القوة، فظهر المتحدث باسم الجيش الصهيوني (افيحاي ادرعي) وهو يرفع صوته علينا، متشدقا، ومهاجما كل من يتعاطف مع حماس، وظهر على شاشاتنا العربية (أفي دختر) وزير الأمن القومي الصهيوني، يصعد من التهديدات، ويُظهر مجتمعه بمظهر الضحية، وكأنه لم يحتل أرضا، ولم يسلب ثروة، ولم يقتل بريئا!!.

 

ثبت من جديد أن ضعف الردع العربي والعزوف عن إعداد القوة جزء من استراتيجية إضعاف الأمة أملا في (السلام)، الذي وعدت به القيادات العربية من (الإدارة الأمريكية)، حتى تحولنا إلى فريق (إصلاح) بين تيارات عقدية متصادمة ومتعارضة (وبعضها مخالف للفطرة)، وأوهمتنا مدائحهم أننا سنخالف القدر الرباني الحكيم الذي يقتضي وجود هذا التباين ليوفر بيئة للاختبار والابتلاء، والذي نستطيع التعايش معه بعد امتلاك لغة التفاوض (وأعدوا لهم).

 

هذه ملفات أغلقت، ولن يقبل المواطن العربي فتحها بعد أن كون وعيا كبيراً بحقيقتها، وبقي ملف (الإعلام المخدر) الذي بدأ في تنفيذ استراتيجية احتواء الثائرين في الأزمات، فلعل استمرار الأزمة وتصاعد وتيرتها قد كشف أوراقا كثيرة، ربما تُمكن المتابع من التنبه إلى حقيقة هذا الإعلام الذي يعيش بعيدا عن همومنا وتطلعاتنا.