الدون كيشوتية
23 ذو الحجه 1429
هيثم الكناني




قبل أكثر من أربعمائة عام أبدع فكر الروائي الإسباني الشهير ميجيل دي سيرفانتس رواية دون كيشوت؛ ودون كيشوت رجل عادي تقمص دور الفرسان الأبطال لينال شيئاً من شهرتهم ويخلد اسمه في صحيفة مجدهم، لكنه لم يحصل على شيء من البطولة إلا ما أوحاه إليه وهمه وخياله.

مشكلة دون كيشوت الكبرى والرئيسة أنه كان يرى الأمور على غير حقيقتها، وينسج لها تفاصيل من وحي الخيال الذي لا يمت للواقع بصلة، فكان من المفهوم والحال كذلك أن يخوض معارك وهمية ويخرج منها بنتائج بائسة كان سيكون في غنى عنها لو أنه نظر للأمور كما هي لا كما يريدها أو يتوهمها.

في واحدة من معاركه الشهيرة رأى غباراً يعلو قطيعاً من الغنم فصور له خياله العليل أنها مجموعة من الفرسان الأعداء فانطلق نحوهم بفرسه فأثخن فيهم القتل والذبح!

لكن أشهر معاركه الوهمية وقعت لما رأى من بعيد طواحين الهواء العملاقة وهي تدور في الفضاء فخيل له أنها شياطين ذات أذرع هائلة فانطلق بحصانه نحوها بكل قوة ليقاتلها ويريح العالم من شرورها. والنتيجة معروفة؛ لقد أطاحت الأذرع بالفارس الهمام وألقته أرضاً ورضت عظامه!

بعد فوز أوباما كتب الشيخ العمر ثلاث مقالات في موقع المسلم تناول فيها -ضمن ما تناوله- ما عده ظاهرة سلبية تمثلت في تمجيد بعض الصالحين لقيم الديمقراطية الغربية؛ في هذه المقالات كان الشيخ حفظه الله واضحاً في بيان أن أمريكا رغم تاريخها العريق في العنصرية حتى أعوام قليلة مضت قد خطت خطوة كبيرة في التخلص منها في الانتخابات الأخيرة، وفي بيان أن كل الممارسات العنصرية التي قد تمارس هنا وهناك في عالمنا الإسلامي مخالفة لتعاليم الإسلام وشرعته.

وفي هذه المقالات كان واضحاً كذلك في رفضه الاستبداد بكل صوره، وفي بيان أن الاستبداد غير قاصر على استبداد كثير من الحكومات وتسلطها على شعوبها، بل إن في المجتمع صوراً عديدة من الاستبداد؛ استبداد داخل الأسرة، وفي المدرسة، وفي العمل، بل حتى في محيط الدعوة إلى الله.

كذلك بين في مقالاته أن هناك نوعاً من الاستبداد أخطر مما سبق وهو الاستبداد بالآراء ومحاولة السيطرة على العقول، وأن هذا النوع -وسماه ديكتاتورية فكرية- هو أساس النوع السابق ومنبعه.

في نقده للديمقراطية الغربية لم يجعلها الشيخ العمر شراً مطلقاً لا خير فيه، بل أمسك ميزان الاعتدال، فأشار من جهة إلى ما فيها من مخالفة للشرع الحنيف وما في واقعها العملي من قصور عن تحقيق ما وضعت له؛ وأشار من جهة أخرى إلى أنها تعطي للشعوب التي تطبقها قسطاً من الحرية والمشاركة في صنع القرار لا يوجد في كثير من بلاد العرب والمسلمين.

وفي الختام كان واضحاً في رفضه الرضوخ لما يمكن أن نسميه إرهاباً فكرياً؛ فإما أن تكون مؤيداً للديمقراطية الغربية على علاتها وإما أن تكون مؤيداً للاستبداد ومحارباً للحرية!

وبين أن مبدأ الشورى الذي قرره الإسلام  هو الحل لمشكلة الاستبداد لا الديمقراطية الغربية.

هذه هي خلاصة المقالات لمن قرأها بعين الإنصاف؛ لكن المرء يفاجأ عندما يجد بعضاً من تعليقات القراء وقد راحت تحارب طواحين الهواء!

فمنهم من نبه إلى أن أمريكا ليست شراً كلها ولا خيراً كلها!

ومنهم من طالب الشيخ بأن يبين أنه ليس مع الاستبداد!

ومنهم من طالب بالعدل في تقويم الحدث من باب {ولا يجرمنكم شنآن قوم}!

وفي مقالتين من الثلاث نجد تعليقات يشكك أصحابها في السماح بنشرها، بل يوجه بعضهم إساءات بالغة للمحرر والموقع بعد الحكم المسبق على أن تعليقاتهم لن تنشر!

لكن الأسوأ من كل ذلك ما تضمنته مقالة نارية لأحد المدونين نشرت في أكثر من موقع ومنتدى، حمَّل فيها كلام الشيخ ما لا يحتمله، وخرج بنتيجة مفادها أن الإصلاح السياسي وتحقيق العدالة بين أفراد المجتمع والعمل بالشورى يهدد مصالح بعض المشايخ فيما يبدو! وأن الشيخ العمر حفظه الله يهون من شأن استبداد الأنظمة، ويرى أن التغلب على هذا الاستبداد يمكن بشيء من الإصلاحات الإدارية الترقيعية!   

ليس الغرض من الكلام هنا الرد على هذه المقالة وتلك التعليقات، فيكفي لذلك أن نحيل القارئ الكريم لمقالات الشيخ، لكن الغرض هو ضرب المثال لبيان نوع من الدون كيشوتية -إن جاز التعبير- التي نرى اليوم كثيراً من آثارها في معارك وهمية تدور رحاها في ميادين الفكر والثقافة.

إن الخلل يكمن في أن كثيرين ينظرون للأمور كما يريدونها أن تكون لا كما هي في أرض الواقع، أو أنهم يتخيلونها بخلاف ما هي عليه في الحقيقة، والحكم على شيء -كما قيل- فرع عن تصوره، فعندما تكون التصورات خاطئة ستأتي الأحكام خاطئة، وستأتي ردود الأفعال بالتالي خاطئة.

أخطر ما في الموضوع أن فلسفة دون كيشوت هذه لا يتبناها عدد محدود من الأفراد، فجولة متأنية على المنتديات الحوارية كافية ليصل الإنسان إلى قناعة أننا أمام ظاهرة، وأن الداء مستفحل، وهذا يلقي بالمسؤولية على عاتق القائمين على شؤون الفكر والثقافة في بلادنا -ممن يملكون أدوات التأثير في الجماهير- لإيجاد حالة من الوعي الكفيل بالتعامل مع القضايا الفكرية بواقعية وموضوعية بعيداً عن الأحكام المسبقة أو الأحكام المبنية على تصورات خيالية.

وليس هذا الأمر من باب الترف، بل ينبغي على هذه النخب أن تبذل ما في وسعها لتجنب الأمة الدخول في معارك وهمية تضيع فيها طاقات، وتشتت جهود، وتصرف أوقات كان من الخير للجميع لو أنها حفظت ووجهت إلى معارك حقيقية.

 أما إن وصل الداء إلى هذه النخب فليس لها حينئذ من دون الله كاشفة، والله المستعان.