بوش: عنوان الهوان.. المالكي: ثبات مريب!!
18 ذو الحجه 1429
أمير سعيد







[email protected]

 

"الحذاء الشبح" الذي ليس بمقدور الرادارات الأمريكية أن ترصده أو تحدد مساره، هو آخر ما أنتجته العبقرية العراقية للتعبير عن "بالغ امتنانها بالحرية الحمراء التي أهداها إليها الرئيس الأمريكي المهزوم"، والحذاء الطائر هو إحدى تجليات المشهد العراقي بكل قسماته الحزينة والمعبرة وهو ينتفض في وجه الرئيس الغازي حتى في قلب المنطقة الخضراء عنوان الهيمنة الأمريكية على العراق.

الحذاء مر بحُذاء وجه الرئيس الأمريكي المنحنى بكل "شجاعة" أمامه، والباسم ببلاهة إثرها تعبيراً عن غبطته بنجاته من الحذاء، في محاولة رعناء للتقليل من حجم تأثره الشديد بتلك الإهانة التي تلقاها بحجم دولته التي نال علمها منها بقدر ما جلبه لها من عار..

إنه التعبير عن "الديمقراطية" وفقاً لبوش الذي حاول الإيحاء بأن الحادثة تكشف عن مستوى الحرية الذي وصل إليه الشعب العراقي، مفيداً من عهد احتلاله البغيض، بما لا يمكن أن يوجد في أي مكان في العالم كله.. إنه ببساطة يريد أن يقول إن العراقيين قد حصلوا على حرية لا تنعم بها حتى أمريكا ذاتها التي لا تتلقى ضيوفها بالأحذية.. إنها قمة الديمقراطية إذن من الناجي من الحذاء!!

إنها الحريات إذن، كذا يريد أن يقول، غير أن للمسلمين قولاً آخر، يستشفونه من قوله تعالى: { وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ } فإذا الإهانة حاصلة لمن مد المظلومون من اليتامى والأرامل والثكالى والعجائز أيديهم إلى السماء يدعون عليه بالذل والهوان؛ فأصابه.

وأظهر من تلك الإهانة، هذا الانكشاف الذي عاناه بوش وهو يعالج آثار الرمية التي اختزلت الحقيقة في رمية نجا منها بوش وتحملها العلم الأمريكي بكل ما يحمله من رمزية؛ إذ الرئيس الذي وصل إلى الحكم وأدار سياسة أضرت تماماً ببلاده اقتصادياً، وأفادت ـ أو نجت على الأقل ـ آل بوش وآل تشيني وأثرياء تكساس والزمرة النفطية المتنفذة في إدارته، لكن الانكشاف المعنوي قد حصل لبوش، حتى وهو يمتحل لنفسه عذراً أن أسقط شعبه كله ودولته في عار الاستبداد الذي سيظل يلاحقهم وإن تذرع بالحرية التي منحت الزيدي مجرد التفكير في هذا العمل.. لقد قال بوش إن الحادثة لم تكن لتحصل ما لم يكن البلد قد تمتع بالحرية.. حسناً، لكن هل تجسدت تلك الحرية والديمقراطية في الممارسة التي تمت على بعد أمتار من بوش والمالكي والتي أقل ما يقال عنها أنها غير آدمية، تلك التي لقيها قاذف الحذاء إثر الحادثة..

لقد كان بوش والمالكي يضحكان في محاولة يائسة للتعبير عن عدم اكتراثهم بالأحذية الطائرة، لكن هذه الابتسامة كانت تشي بما لا يدع مجالاً لشك أن الباسمين مجرمان، لكونهما قد كشفا عن نفسية استبدادية قاهرة لم تحرك فيهما ساكناً لوقف هذا الاعتداء على الصحفي أمام شاشات العالم. إن انتهاكاً لأبسط حقوق الإنسان قد وقع مصوراً ومسجلاً لصرخات الألم تنطلق من حنجرة الزيدي، وهما بعد يبسمان، ولسان حالهما يقول:

ضحكنا وكان الضحك منا سفاهة                        وحق لأهل البسيطة أن يبكوا

فأي نفسية تحمل الكذب بين جانبيها أتاحت لبوش الذي تبرأ قبل أيام من المسؤولية عن جرائم "أبو غريب" تحت ذريعة أنه لم يكن هناك حينها، أن يصم أذنيه وهو يسمع الزيدي يصرخ، وهو يبتسم؟!  وهل يعاني المحتجون في الولايات المتحدة بمثل ما بدا أن الصحفي قد عاناه أمام الكاميرات؟ وهل يمكن أن تكون الطريقة التي اقتيد بها الزيدي أمثولة ديمقراطية يمكن استنساخها في بلاد الحرية المبشر بها أمريكياً؟!

سرحان بشارة سرحان، الذي اغتال روبرت كينيدي، قبل 41 عاماً، وجون هينكلي الذي حاول اغتيال الرئيس الأمريكي (الجمهوري) في 30 مارس 1981، لم يجابها بهذه المعاملة التي لقيها منتظر الزيدي لدى توقيفه.. في الحالين كان هَم الحراس القبض على الجاني، ولم يستعملا الضرب معهما على الأقل أمام الناس، وفي حادثة ريجان، أمام التلفزة، بينما أمام الرئيس بوش كانت الضربات تتوالى انتقامية على جسد منتظر فيما كان بوش ورفيقه يضحكان..

إنها القيمة الجديدة التي قدمها الرئيس المبشر بالديمقراطية، والتي يغادر بغداد للمرة الأخيرة ـ في غالب الظن ـ وقد حققها!!

ليست المذلة هي التعبير الوحيد عن هذه الحادثة لهذا الرئيس الذي ضم إلى سلسلة أكاذيبه، أكذوبة حب العراقيين لطريقة المحاصصة الطائفية التي جلبها لبلادهم، إلى الحد الذي زعم معه أنه سيستقبل من قبل العراقيين بالورود.. لا ورود ثَمَّ، بل أحذية لو أتاح الرئيس الأمريكي بالفعل لمعظم العراقيين والعرب أن "يعبروا له عن حبهم للنموذج الذي استحدثه في العراق وعن ديمقراطيته ـ مثلما قال عن واقعة الحذاء ـ لتاه منتظر بين جموع "المعبرين عن غبطتهم بديمقراطية بوش على وجنتيه".

نعم ليست المذلة للرئيس وحدها هي التعبير الآتي من حجرة المنطقة الخضراء الضيقة التي اختير فيها الصحفيون العراقيون بعناية ليقابلوا الرئيس الأمريكي، بل ثمة عديد من المعاني الهامة، التي يتلخص بعضها في أن القادم إلى البيت الأبيض قبل ثماني سنوات بلافتة الأمن، لم يتمكن من تحقيقه حتى لنفسه برغم أنه دخل بغداد ـ كعادته ـ متسللاً كرجال العصابات، وغادرها كذلك في جنح الظلام إلى أفغانستان بالطريقة ذاتها من التخفي والتمويه لأن حاكم البيت الأبيض يسكن الخوف جوانحه فيما كان يعد أنصاره بالحماية والأمان.

ومن بين علمين يحملان كلمة "الله أكبر" كان الحذاء يشق طريقه بينهما إلى علم البلد الغازي من دون أن يمسهما بسوء لتكون العزة لله والصغار على المجرمين، يطأطئ الغازي له رأساً، ويمد الحارس له يداً، ليؤدي دوره تماماً كأداة في يد الاحتلال، ومخلب قط للغزاة.. فذليل وحقير.

وفي صدر المشهد يرمي منتظر الزيدي الحذاءين، واحداً تلو الآخر؛ ليفجر أكثر من تساؤل:

1 ـ هل فعل الشاب فعلته، استجابة لمكنون الغضب والغليان في صدره من حكم احتلالي مستبد ومحلي مساند له، وتعبيراً عما يعتمل في نفوس أبناء "مدينة الصدر" الفقراء الذين ابتاعوا الوهم بالاحتلال وصاروا أكثر بؤساً من أيام من كانوا يدعونه بكل فخر "هدام"؟ أو لأنه يريد أن يدخل الجنة، أو يدخل التاريخ، أو يقدم نموذجاً وطنياً فدائياً؟

2 ـ أم تراه فعل ذلك وفاءً لجهة ما، يعنيها أن تظهر بشكل وطني أو "إسلامي" يمحو من ذاكرة العراقيين وجيرانهم أن "مدينة الصدر" مثلما أخرجت مجرمي فرق الموت، أنجبت "أبطالاً" لا يقلون "بطولة" عن تلك الموصوم بها حسن نصر الله؟!

3 ـ أكان المالكي الذي كان ثابتاً إلى حد كبير، على علم بالحادثة قبل حصولها، أم أن تاريخه قد شجعه على "الثبات" بل وإمساك زمام المبادرة، ومحاولة التقاط الحذاء، أم أنه رجل لا يخاف الأحذية؟!

4 ـ لماذا خرجت الجموع تحيي "البطل" من مناطق لم تطلق رصاصة واحدة على المحتل، ولماذا "مدينة الصدر" والنجف وكربلاء هي الأكثر احتفاء بالزيدي؟!

وإذا كان الحذاء لم يصب رأس أوباما، واقتصر على الراحل عن البيت الأبيض؛ فمن تراه مرشحاً لجني أرباح تداعيات حادثة الحذاء الطائر سواء من قوى إقليمية أجلت توقيع الاتفاقية لحين مغادرة الجمهوريين حلبة السباق الرئاسي أو قوى شعبية ترنو ببصرها جهة صندوق الانتخابات القادمة أو شعب مهيض من المحيط إلى المحيط رأى في هذا الحذاء أقل وأبلغ ما يقال لغربان البيت الأبيض، وتجمع كعادته حول أي مشهد بطولي استثنائي سواء أكان حقيقياً أم زائفاً؟؟

لكن إذا كان علينا أن نعيش اللحظة، وألا نفسد على المبتهجين فرحتين؛ فلنجب فقط عن سؤال فيزيقي وحيد محير: لماذا لم يصب الحذاء بوش؟!

لأن الأقطاب المتشابهة تتنافر..