حق اللاجئين في العودة.. حديث فقهي
15 ذو الحجه 1429
هشام منور

لم يكن أكثر "المهرولين" إلى عقد اتفاق "سلام" مع الكيان الصهيوني تفاؤلاً، بعد أن حققت ـ بزعمهم ـ تلك السلسلة من "الاتفاقيات" المشؤومة جزءاً بسيطاً جداً من حقوق الشعب الفلسطيني من خلال انسحابات جزئية من بعض المناطق المحتلة، واعتراف شكلي "صوري" بسلطة تنفيذية فلسطينية على المناطق "المحررة"، والسماح ببناء جهاز أمني قمعي يحل ـ في الغالب ـ مكان سلطات الاحتلال في قمع وردع التفاعلات الشعبية الوطنية منها والإسلامية، التي اتخذت من شعار المقاومة منهجاً وديدناً، أقول: لم يكن أكثر "أولئك" تفاؤلاً بتلك "المنجزات" ليتوقع أن ما تم تأجيله آنذاك من قضايا عالقة بين الطرفين المتفاوضين ـ ولو شكلاً ـ سوف يكون حجر عثرة أو ـ إن صح التعبير ـ عقبة كؤود أمام استمرار تلك العملية التفاوضية، وبالتالي استمرار مسلسل التنازلات الأليمة التي ما برح الكيان الغاصب يتبجح بها ويستغيث من ويلاتها ومآسيها، فيما كان الشعب الفلسطيني على موعد دائم مع تحمل نتائجها على أرض الحقيقة والواقع.

 

فالقضايا العالقة التي تم تأجيلها في ذلك الوقت إلى مفاوضات الحل النهائي (وربما إلى إشعار آخر) كانت من الهول والجسامة بمكان، بحيث اقتنع الطرفان المتفاوضان بضرورة تأجيلها حفاظاً على "ثمار السلام" التي لم يهنأ زارعوها بالتنعم بها، فقضايا من حجم (القدس وحق العودة للاجئين والبؤر الاستيطانية المشتولة في أرضنا والحدود النهائية للدولة وصيغة علاقاتها مع الكيان الصهيوني ودول الجوار)، كلها قضايا من العيار الثقيل تجنب "المفاوضون" حينها مناقشتها أو التعرض لملفاتها، وفي الوقت الذي ظن الجميع فيه ـ مع اقتراب ساعة الصفر لمناقشة هذه القضايا ـ أن قضايا من مثل: القدس أو الاستيطان أو الحدود ستكون المعرقل الرئيسي لعملية السلام المزعومة، فاجأ الكيان الصهيوني الجميع باستعداده للتفاوض حول جميع القضايا سوى قضية واحدة، لم يكن ليستسيغ مناقشتها أو حتى التلميح إلى وجودها، ألا وهي قضية اللاجئين وحقهم في العودة إلى وطنهم الأم فلسطين، بل إن ما جرى مؤخراً من قمم (بضم القاف) لم يكن ليثني رئيس وزراء  مجرمي الحرب (شارون) عن الإعلان بكل صراحة عن رفضه القاطع والحاسم والنهائي لعودة أي فلسطيني إلى الأرض المحتلة، متعهداً بتحقيق ذلك أمام مؤتمر لحزبه من القردة والشياطين في القدس المحتلة.

 

وإذا كان مصطلح "اللاجئين" مصطلحاً سياسياً عرفه الشعب الفلسطيني بداية عام /48/ مع قيام دولة الكيان الغاصب، وتهجير جزء كبير من أهلنا القاطنين في الجزء الذي أقرت فيه هيئة الأمم المتحدة كونه (حقاً؟!) للصهاينة وفق قرار التقسيم الصادر عام /47/، فإن تلك المأساة ما لبثت أن تكررت بعد حوالي العشرين عاماً أثناء عدوان الخامس من حزيران/ يونيو عام 67، لتستكمل تهجير وتشريد الآلاف المتبقية في القدس الشرقية والضفة والقطاع، في هذا السياق لا يجادل أحد من الفقهاء المسلمين على المستوى الشرعي أن ما حدث ـ ويحدث حتى الآن ـ هو عدوان واحتلال غاشم لجزء أصيل من الوطن الإسلامي الكبير، كما أن الجدل لا يثار حول شرعية افتراض الجهاد العيني على كل مسلم لتحرير الأرض المحتلة من مدنسيها، لكن السؤال الذي يثار هنا ـ مع تسارع وتيرة التفاوض مع العدو متساوقة مع تسارع سلسلة التنازلات المقدمة لاسترضائه ـ هو: هل يجوز بناء على اختصاص الحاكم أو الإمام بتصريف شؤون المسلمين العامة والسياسية فيها على وجه الخصوص، أن يتم التنازل عن أي جزء من الأرض لتحقيق هدنة أو صلح دائماً كان أم مؤقتاً مع العدو؟.

 

إننا ـ ومع معرفتنا الدقيقة لعدم تحقيق شرط الإمام أو الحاكم العام لجماعة المسلمين على مستوى العالم الإسلامي (الخليفة)، وحتى لا نُتهم بالماضوية وعشق الأطر التاريخية ـ نرى وجود جدل شرعي معروف حول هذه القضية، يتمثل في انقسام الفقهاء إلى فريقين: يرى أحدهما جواز الإقدام على التنازل عن جزء من الأرض مقابل تحقيق هدنة أو صلح مؤقت مع العدو، شريطة أن يكون الدافع إلى ذلك وجود ضرورة ملجئة ـ بالمعنى الشرعي للكلمة ـ أي: أن يترتب على عدم الموافقة على ذلك هلاك قسم كبير من المسلمين أو ضياع قسم أكبر من الجزء المفرط فيه، أو حتى إزالة شأفة المسلمين من الأرض، فهل هذه الشروط أو الضوابط متحققة في الحالة الفلسطينية عند من يرى إمكانية التنازل عن أراضي /48/ وجزء كبير من أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة استرضاء أميركا؟!.

 

فيما يرى القسم الآخر من الفقهاء عدم جواز ذلك مطلقاً مهما كانت الظروف والمعطيات، والأمر بعد ذلك متروك لولاة الأمر كي يتصرفوا في ذلك في ضوء خشيتهم لله تعالى، ووضع مصلحة الإسلام والمسلمين نصب أعينهم في كل ما يتخذونه من قرارات.

 

هذا بالنسبة للتوصيف الشرعي لما يجري على أرض فلسطين على المستوى الجماعي أو العام، والقاضي بوجوب الاستمرار بانتهاج سبيل المقاومة والجهاد حتى ينعم الله عز وجل علينا بالنصر والتحرير، أو الاستشهاد والخلود، بيد أن للأمر وجهة نظر شرعية تأخذ في حسبانها الجانب الفردي للمواجهة مع العدو، فما من شك أن الإسلام جاء محافظاً على الحرمات الخاصة لمعتنقيه ومن يستظل بلوائه من أهل الذمة، هذه الحرمات (النفس والعرض والمال) يفيض التشريع الإسلامي بالنصوص الداعية إلى استبقائها سليمة والمحافظة عليها، وحسبنا تدليلاً على ذلك، اعتبار الشريعة الإسلامية تلك الحرمات من المقاصد الضرورة التي جاءت للعناية بها (مقاصد الشريعة وضرورياتها الخمس: الدين والنفس والعقل والعرض والمال)، بل إن هناك في الكتب والمتون الفقهية باباً خاصاً عقده مؤلفوه لمعالجة حالة "الصيال" والاعتداء على تلك الحرمات ومشروعية الدفاع عنها ومراحله وحكمه في كل مرحلة منها، فالصيال ـ كما تشير إلى ذلك معاجم اللغة ـ: هو الاستطالة والوثوب على الغير، أي: التعدي عليه بأي وسيلة وأي أسلوب كان، فيما يخصه الفقهاء: بالوثوب على معصوم بغير حق، والمراد بالمعصوم هنا: النفس أو المال أو العرض، سواء كانت هذه الحرمات لمسلم معصوم بسبب انتمائه إلى الإسلام، أو لذمي أو مستأمن اكتسب العصمة بسبب عقد الذمة أو الأمان، فالقتال دفاعاً عن هذه الحرمات الخاصة ـ تمييزاً لها عن الحرمات العامة التي تمس المجتمع ككل ـ أمر مشروع من قبل المعتدى عليه، أو من قبل طرف ثالث يدفع المعتدي عن تلك الحرمات، والمستند في ذلك قوله عز وجل: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) "البقرة: 194"، والنص الصريح المؤسس لذلك في السنة النبوية المشرفة "من قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد" وفي رواية: "من دون مظلمته فهو شهيد".

 

والفقهاء في هذه الحال ـ حال الصيال ـ متفقون على اعتبار المدافع عن هذه الحرمات شهيداً، وبالتالي فإن الحالة الفلسطينية قد اجتمعت فيها وجوب كل من الجهاد على الفلسطينيين ومن وراءهم من العرب والمسلمين عامة، وانضاف إلى ذلك بالنسبة إلى الشعب الفلسطيني وجوب مدافعة وقتال الصائل على حرماتهم الخاصة من نفس ومال وعرض وأرض، فإن حاول البعض التذرع لوقف قتال العدو بفرض حالة الهدنة والسلام مع العدو، وانتفاء وجوب الجهاد بناء على تلك الحالة، فإن في حالة دفع الصائل ووجوب مقاتلته ـ والعدو لم يفتأ ينتهك الحرمات يومياً ـ دليلاً شرعياً على وجوب جهاد العدو والاستمرار في ذلك، واعتبار من يستشهد في ذلك شهيداً مبروراً بإذن الله تعالى.

 

على أن تطرقنا لموضوع مدافعة الصائل والمتعدي على الحرمات الخاصة أو الشخصية يقودنا إلى مناقشة حق اللاجئين في العودة إلى وطنهم واسترداد حقوقهم وممتلكاتهم الخاصة، وهو حق فردي لا يملك أحد إسقاطه مهما كانت سلطته ونفوذه العام شرعاً، لأن تصرفات ذلك المتنفذ العام منوطة بتحقيق المصلحة لجماعة المسلمين، وعدم الإضرار بهم، ولا أحسب أن أحداً يستطيع أن يرى مصلحة ـ ولو ضئيلة ـ في التنازل عن الحقوق الخاصة والعامة للشعب الفلسطيني دون إذنه، ودون أن يكون في ذلك ضرورة ملجئة.

 

لقد اقتربت ساعة الحسم، وما بدا للبعض من أن قضايا مؤجلة لن تعيق سير عملية التوصل إلى حل نهائي للقضية المحورية للعرب والمسلمين (فلسطين)، قد ثبت خطؤه وعدم صدقيته، وإذا كان للعدو أن ترتعد فرائصه وأوصاله من الآثار الناجمة عن عودة الملايين من اللاجئين الفلسطينيين إلى وطنهم وديارهم، بما يعني ذلك من اختلال في التوازن الديمغرافي والاجتماعي، انهيار على الصعيد الاقتصادي والسياسي، فإن ما لا يمكن تعقله أو حتى تفهمه تهاون أو محاولة تنازل أبناء جلدتنا عن هذا الحق التاريخي الذي كفله للشعب الفلسطيني جميع الشرائع والمواثيق السماوية منها والوضعية، وإذا كانت الغالبية العظمى ـ بل الساحقة ـ من الشعب الفلسطيني لا تزال ـ وستبقى إن شاء الله ـ رافضة التنازل عن حق العودة إلى الوطن، لوعيها العميق بمخاطره ودلالاته وآثاره، فإن ما يجب أن يعلمه أولئك المستعدون للتفاوض والمساومة على هذا الحق، أن ما تمتاز به الأرض المباركة (فلسطين) عما سواها من بقاع العالم، هو كونها أرضا لكل مسلم حق شرعي في الحفاظ عليها واستبقائها في أيدي العرب والمسلمين، وكون الشعب الفلسطيني صاحب الحق المباشر في الذود عن حياض أرضه، لا ينفي تعلق حقوق بقية المسلمين فيها، فهي أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، أرض الإسراء والمعراج، وبالتوازي فإن جميع الأصوات الداعية إلى استقلال وانفراد الشعب الفلسطيني بإدارة أزمته وقضيته مع العدو تسقط بعيداً في أتون الوحدة الإسلامية، وعلى الجميع أن يكونوا ملكيين، حتى ولو كانوا أكثر من الملك نفسه.