تحديات تواجه البوسنة في الذكرى الـ 13 لتوقيع اتفاقية دايتون
3 ذو الحجه 1429
عبد الباقي خليفة




مرت في 21 نوفمبر 2008 م الذكرى 13 لتوقيع اتفاقية دايتون ، وسط خلافات حول مستقبل الاصلاحات ، والتي استمرت المفاوضات حولها في السنتين الماضيتين ، دون أن تحقق نتائج كبيرة على صعيد تغيير الدستور وإصلاح الشرطة وغيرها من الإصلاحات . وفي 8 نوفمبر 2008 م توصلت ثلاث أحزاب كبرى تمثل عدد كبير من الناخبين من الطوائف الثلاثة ، البوشناق والصرب والكروات إلى اتفاقية حول الإصلاحات رفضها البرلمان البوسني ، و(عضو مجلس الرئاسة البوسني ) الدكتور حارث سيلاجيتش . لأن الاتفاقية في نظره ترسخ التقسيم على أساس الكيانين الفيدرالي والصربي كأساس لسيادة الدولة . وهناك طموحات كبيرة لدى البوشناق لإعادة تركيبة البوسنة الداخلية . وهناك ميولاً لأن تكون البوسنة مقسمة إلى محافظات على أساس اقتصادي وجغرافي وتجاري. لكن ذلك يبقى رهن بالإرادة الدولية المفقودة.

 

تحديات الاصلاح :

 

 صرب البوسنة يرفضون أي تغيير في اتفاقية دايتون يفضي إلى نزع امتيازاتهم ويقضي على كيانهم . ولذلك  يهددون في كل مناسبة ، بإجراء استفتاء على الانفصال ، إذا ما تم تهديد مكاسبهم التي حصلوا عليها عبر الاتفاقية المثيرة للجدل على مدى 13 عاما . رغم أن مثل هكذا إجراء يعد مخالفاً لاتفاقية دايتون التي نصت على أن أي استفتاء مهما كان ونوعه لا يمكن إجراؤه سوى على مستوى الدولة .

ومع أن المسؤولين الأميركيين والأوروبيين يؤكدون في كل مناسبة ، على أن البوسنة دولة موحدة ، وأن الجهات المركزية هي وحدها المخولة لاجراء مفاوضات الاندماج في الاتحاد الأوروبي ، وحلف شمال الأطلسي ، إلا أن الجهتين لم تبذلا الجهد المطلوب لإنفاذ الإصلاحات المرجوة . وتصحيح أخطاء اتفاقية دايتون ، وهي أخطاء يستغلها الصرب اليوم لوقف الإصلاحات أو إفراغها من أي مضمون حقيقي . كما يؤكد الكثيرون وفي مقدمتهم عضو مجلس الرئاسة الدكتور حارث سيلاجيتش . مما يعني الاعتراف بنتائج الإبادة التي تعرض لها المسلمون في المنطقة ، ويثبت تلك الاتهامات للأمم المتحدة والغرب والتي رافقت عمليات الابادة في سريبرينتسا والتي سبقتها عمليات نزع الأسلحة من الجيب الذي كان محاصرا ، وقبل ذلك فرض حظر بيع الأسلحة على البوسنة . في وقت كانت فيه مصانع الأسلحة في صربيا لا تتوقف عن تصنيع  آلات القتل والتدمير في البوسنة . وقال الدبلوماسي أدهم باشيتش " للمسلم " دايتون اتفاقية ظالمة ليس لها مثيل في التاريخ المعاصر حيث قدمت نصف البوسنة، جزاءً للمعتدي عليها ، وسمي ذلك الجزء بجمهورية صربسكا ، هذا الاسم ، فانتوم ، ليس له أي جذور في جغرافية المنطقة وتاريخها " .

 

 وليس إشكالية تصحيح أخطاء دايتون ، وإعادة بناء الدولة البوسنية على أسس متينة ، هو التحدي الوحيد الذي يواجه الاصلاحيون اليوم ، وإنما عودة المهجرين إلى ديارهم ، فهناك مليون مهجر لا يزالون خارج مناطقهم . وهو وضع يصفه البعض ومنهم باشيتش بأنه " إزالة عرقية مستمرة " بسبب وجود من مارسوا الإبادة في سلطة كيان صرب البوسنة . فيما تجري محاكمات لاهاي لمجرمي الحرب ، دون أن يكون لذلك تأثير على واقع البوسنة ، بحكم أن جرائم الحرب وجرائم الإبادة هي التي صنعت أحداث وواقع البوسنة منذ سنة 1992 وحتى اليوم . وعوض أن يحاكم الأشخاص كان على ما يوصف بالعدالة الدولية أن تحاكم مشروع صربيا الكبرى ، الذي تسبب في سقوط ما يزيد عن 200 ألف ضحية ، وتدمير 90 في المائة من البنية التحتية وتجريد أكثر من مليوني نسمة من ديارهم أكثر من 80 في المائة منهم مسلمون .

 

 ولذلك يتساءل الكثيرون عن مغزى اعتقال كراجيتش ، وموت ميلوسيفيتش بينما نتائج العدوان لم تزال ولم تمت . وما لم يتغير النظام الذي يحكم العلاقات السياسية في البوسنة اليوم ، فلا مجال لإصلاحات حقيقية .

وإذا كان في البوسنة ، ثلاثة طوائف ، فلماذا يسمى جزء من البوسنة " جمهورية صربسكا " في حين لو تم إطلاق "الجمهورية الإسلامية البوسنية " أو "البوشناقية " لقامت الدنيا ولم تقعد . ولاستمرت الحرب في أبشع مظاهرها وبشكل أكثر سفورا ضد المسلمين .

واليوم يتعرض المسلمون في مناطق السيطرة الصربية ، للعدوان بمختلف أشكاله ، ولاسيما في المؤسسات ، كالمستشفيات ، والمدارس ، وحتى في الطرق العامة . ويضيق عليهم في كسب الرزق حتى لا يوجد أي بوشناقي في مؤسسات الكيان الصربي الاقتصادية والحكومية ، فضلا عن القطاع الخاص

 

هل خدع هلبروك :

 

 اتفاقية دايتون كانت انعكاس لعدم ثقة الأميركيين والغرب بالمسلمين حتى وإن كانوا أوروبيين أصليين مثل البوشناق؛ فقد كانت اتفاقية قطعت أوصال البوسنة ، وجعلت حدودها الداخلية متداخلة ، بما يؤهلها لتقسيم فظيع كسيناريو في حالة لم تسر الأمور كما يشتهيها العراب الأميركي . وإن البعض قد اتهم الأميركيين بأنهم " وضعوا البوسنة كمختبر للفحوصات ، وأنه آن الأوان لانتهائه " إلا أن عدم الثقة في المسلمين مرض جيني لدى الآخر وليس اختبارا أو مجرد عدم ثقة إلى أن يثبت العكس . وهذا ما تؤكده علاقات الغرب بالمسلمين ولاسيما الملتزمين منهم .

 

وينقل عن مهندس اتفاقية دايتون ريتشارد هلبروك قوله " إن أكبر خطأ في حياتي هو ، جمهورية صربسكا ، وأنا كتبت في مذكراتي أني لن أموت إلا بعد إصلاح الخطأ وأنا نادم أشد الندم على ذلك " ويقول هلبروك أنه تعرض للخداع من قبل ميلوسيفيتش ، وأنه بدوره خدع المفاوضين البوشناق . لكنه لم ينشر الكيفية التي تم بها خداعه ، إلا أن هناك من أكد ذلك تم عن طريق زجاجة خمر احتساها مع ميلوسيفيتش الذي سقاه عمدا في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل ، عندما دخل عليه وفي يده زجاجة ، ويسكي ، طالبا منه إحضار الثلج ، وأنه سيتولى فتح الزجاجة ، وسهر الجميع كما يقول ، المصدر ، حتى الفجر ، عندها قال ميلوسيفيتش لهلبروك " أن صرب البوسنة وكراجيتش والجنرال ملاديتش تافهين ومجانين وأنا صاحب القرار، أرجو منك يا سيد هلبروك أن نشير في الاتفاقية ، شكلا فقط ، مصطلح جمهورية صربسكا ، أي أن نضع فقرة في الاتفاقية ، تؤكد على أن البوسنة دولة كاملة السيادة ووحدة الأراضي ولكنها في الداخل مقسمة إلى كيانين ، فيدرالي ، وجمهورية صربسكا ، وهو مصطلح شكلي سيتلاشى مع الوقت " وقد قيل لهلبروك " ماذا لو كانت الزجاجة زجاجتين ماذا كنت تفعل " .

 

 وكان السؤال الذي طرح على المصدر هو ، إلى أي مدى مضى هلبروك في إصلاح اتفاقية دايتون الظالمة وهل الموقف الأوروبي مع النوايا " الحسنة " لهلبروك . علما بأن السياسة لا تقاس بالنوايا ولا بالتمني وإنما بموازين القوى .

 

 في الوقت الذي تشهد فيه المنطقة تداعيات استقلال كوسوفو ومن ثم الازمة القوقازية وتحديدا أبخازيا وأوستيا الجنوبية . وظهور كتابات تتحدث عن إمكانية استقلال " جمهورية صربسكا " فيما لو تأزمت العلاقة أكثر بين روسيا والغرب ، أو حصلت تطورات دراماتيكية كانهيار اقتصادي دولي نتيجة الأزمة المالية التي تعصف باقتصاديات العالم ، أو اندلعت حرب خطيرة في أي منطقة من العالم .

 

وهناك من يميل إلى تصديق هلبروك ، " لأن لا بد بقدر معين من الأخلاق والعدل ، فالحياة ليست مصالح فقط وإلا فستكون النتائج كارثية على الجميع " بينما يرى البعض أن ما قاله هلبروك وما نقل عنه ليس سوى تبرير سياسي لرفع العتب .

 

مخاوف الراهن:

 

لا يخف الكثير من المراقبين والمحللين مخاوفهم من الأخطار التي تتهدد البوسنة ، بعد 13 سنة على توقيع اتفاقية دايتون ، فناقوس الخطر بالنسبة لتقسيم البلاد لا يزال قائما . وذلك يعود لتأخير إصلاح دايتون بل عدم تنفيذ بنوده تنفيذا كاملا .

 

ويأمل الكثيرون في أن يكون انضمام صربيا للاتحاد الأوروبي يكون نهاية لتدخلها في الشؤون الداخلية للبوسنة ، كما كان بالنسبة لكرواتيا التي نأت سياستها عن التدخل في الشؤون الداخلية لدولة البوسنة متعدد الطوائف والأعراق . ويربط البعض ذلك فظهور رئيس جديد لصربيا على غرار الرئيس الكرواتي ستيبان ميسيتش ، أكبر المدافعين الإقليميين عن سيادة البوسنة وسلامة أراضيها . وقبل ذلك لا يمكن أن يتنفس البوسنيون بل منطقة البلقان وأوربا الصعداء ، حيث لا تزال سياسة بلغراد تتسم بالغطرسة ومحاولات الهيمنة . كما أن زعماء صرب البوسنة بمن فيهم رئيس وزراء صرب البوسنة ميلوراد دوديك لا يزالون رهينة سياسات بلغراد .

 

 ويتوقع البوسنيون أن تتدخل الإدارة الأميركية الجديدة بشكل ايجابي لحل معضلات البوسنة ، بما فيها إصلاح الدستور وأن يساعدوا البوسنة بالدرجة الأولى في إصلاح أخطاء الإدارات الأميركية السابقة في البوسنة أيضا . حيث إن اتفاقية دايتون ، صناعة أميركية . والتوقف عن المساواة بين من يدعو لتوحيد البوسنة وتنفيذ الإصلاحات اللازمة ، وبين من يسعى لتقسيم البوسنة وتهديد الأمن والاستقرار في منطقة البلقان ، من خلال إقامة دولة داخل الدولة . وهي دولة عنصرية ودولة لقوم واحد فقط ودين واحد فقط .

 

بينما قضى السياسيون البوشناق المسلمون أعمارهم في الدفاع عن دولة تعددية يتمتع فيها الجميع بحقوق المواطنة على قدم المساواة ، بقطع النظر عن الانتماء العرقي والديني . كما لهم دور في التقريب بين الثقافات وحوار الأديان والحضارات .

 

 والذين يساوون بين البوشناق المسلمين وغيرهم في البوسنة إما جاهلون أو مغرضون لهم نوايا غير سليمة . ويحذر بعض الدبلوماسيين من أن تتحول البوسنة في حال لم يكن هناك تدخل دولي فاعل إلى ما يصفه باشيتش بـ" رام الله وغزة " . وذلك مع ما يشهده العالم من توتر بين الشرق والغرب ، مما يهدد السلم والأمن و الاستقرار العالمي . إضافة لتعميق الفجوة بين الأغنياء والفقراء ، وعدم إيجاد مخرج من الأزمة المالية التي تعصف باقتصاديات أكبر الدول وأكثرها ثروة .

 

 كما هناك خطر العودة لسباق تسلح جديد مع عودة روسيا للمسرح الدولي . ونمو الصين والهند بشكل كبير ، ولا مثيل له في التاريخ . وبعض هذه التطورات ينعكس بشكل سيئ على البوسنة ومنطقة البلقان.

ويشعر البوشناق المسلمون بأن قضية كوسوفا حلت بطريقة أفضل من البوسنة حيث لم يمنح الصرب كيانا يسيطرون عليه داخل البلاد . ويتوقع أن يكون الاهتمام بالبوسنة وبقضايا البلقان عموما أفضل في عهد باراك أوباما منه في عهد جورج بوش الابن . وهي مرحلة جديدة تتزامن ومعركة الدستور وتوحيد البوسنة ومنع أي نتوءات بإمكانها أن تمثل خطرا على مستقبل البوسنة .