أيها العالَم المنافق.. أعرفت مكان الصومال؟!
25 ذو القعدة 1429
أمير سعيد







[email protected]

سيريوس ستار أو الشعرى اليمانية، الناقلة العملاقة صاحبة اسم هذا النجم البارق، الذي تتيمت به العرب في الجاهلية وعبده بعضهم، وورد اسمه في كتاب الله: "وأنه هو رب الشعرى"، وحيث تلألأ في سماء الفراعنة فخطف أبصارهم إلى مجموعة الجبار التي أسس بناة الأهرامات بناياتهم على هداها..

ألََقُها لم يأسر القدماء وحدهم، بل عدسات الإعلام أيضاً، إذ غدت شاهدة على قدرة القراصنة على امتلاك "أكبر قنبلة نفطية" في العالم في لحظة خاطفة انعكست فيها أضواء الشعرى اليمانية على شاشات التلفزة، وبحر العرب.

لم تكن سيريوس ستار الأولى لكنها كانت الأبرز في حلقات القرصنة، وكانت الأهم بعد الناقلة الأوكرانية "فاينا" التي تحمل دبابات هجومية ضمن صفقة أسلحة متجهة إلى دولة إفريقية، وهما قد باتا المؤشر الأبرز على دخول مسألة القرصنة مرحلة بالغة التعقيد والحساسية لاسيما على أصعدة توسيع القراصنة مساحة تواجدهم في المياه الدولية (حيث اختطفت الناقلة السعودية على بعد 800 من مومباسا الكينية)، أو قوة تسليحهم وخفة تحركاتهم وصعوبة كشفهم وخبرتهم التراكمية، أو في مجال نشاطهم والذي يستوعب نحو 30 ألف سفينة تمر من مناطق نفوذهم، أو استيعاب عملياتهم لطريقي الملاحة البحرية المتاحة (قناة السويس، ورأس الرجاء الصالح).

وإذ أماطت سيريوس ستار اللثام عن حجم هذا التحدي الذي يجابهه العالم، تتناثر تحليلات عديدة عن ماهية هذا التزامن اللافت بين هذا النشاط البحري الذي أحال المياه قبالة السواحل الصومالية الشاسعة ثقباً أسود يستقطب قطعاً عسكرية من شتى أنحاء العالم، كحاملة الطائرات الأمريكية والقطع البحرية الفرنسية والهندية والماليزية والهولندية والألمانية والكورية والتركية والهولندية.. وأخيراً الفرقاطة الروسية، وبين النشاط العسكري للمقاومة الصومالية لاسيما جناح طاهر أويس الموضوع على قائمة أمريكية للإرهاب، وشباب المجاهدين، الذي وضع عناصرها على مقربة من العاصمة الصومالية مقديشو..

 هل من تلازم إذن ما بين نشاط القراصنة وهجمات المقاومة التي أجهضتها الولايات المتحدة الأمريكية من قبل إبان حكم المحاكم الإسلامية للبلاد؟ البعض يقرن جازماً بحدوث نوع من التواطؤ يبرر إحكاماً دولياً على المضايق الهامة أو يمهد لتدخل عسكري بمشرط جراح في لحظة فارقة؛ ليدعم حكم الرئيس الصومالي عبد الله يوسف، ويسوق عدداً من الأدلة على ذلك منها أن الولايات المتحدة لم تتضرر بعد ولا "إسرائيل" بهجمات القراصنة، كما أن الأولى ستفيد من الإضرار بالملاحة في البحر الأحمر ومنها قناة السويس، والبعض يستخف تماماً بهذا التفسير التآمري لعمليات تحكمها أغراض الكسب السريع لا السياسة الفارغة في الصومال بعدما أفضت الأخيرة إلى فوضى لا تنتهي، كما وأن الأنباء قد توالت بأن حركة شباب المجاهدين قد سارعت إلى تعقب القراصنة لاعتبارهم قد بغوا على ناقلة دولة مسلمة.

لكن مهما يكن من أمر؛ فإن حوادث القرصنة التي فرضت نفسها على طاولات البحث لدى صناع القرار المعنيين في العالم، بوجود أكثر من 14 سفينة مخطوفة وأكثر من مائتي رهينة وملايين الدولارات حبيسة، تثير شجوناً حول أوضاع بلاد كانت تسمى من قبل ـ بحسب اللغة الصومالية المحلية ـ "اذهب واحلب"؛ فصيرها الغرب "اذهب واقتل"..أرضاً فقيرة مدقعة تتناوشها المجاعات والأمراض، وثنى العرب تواطؤاً فتركوها تنشب فيها المنايا.. ثم لم يجد الجمع كله نفسه إلا أمام استحقاق بالتدخل السريع في هذا البلد البائس!

آلآن تذكرتم أن ثمة بلداً يدعى الصومال يعاني من جوركم الأمرين؟! والآن تداعيتم من شتى أركان الكرة الأرضية لتمنعوا ـ وأنتم أهل القرصنة الدولية على الدول والشعوب وأرباب الأزمات المالية الخبيثة ـ "جرائم الضعفاء".. آلآن يا بلاد الغرب تذكرتم نتائج جريمتكم التي لم تعترفوا بها هي لحد الآن إذ أطحتم حكم الاستقرار والعدل في الصومال بحجة الحفاظ على "سينمات مقديشو"!! والآن التأم العرب لبحث المسألة بعدما نحرت تسونامي القرصنة شواطئكم ومصالحكم!! الآن والآن فقط تذكرتم أن فئة من الفقراء قد سئموا التجاهل فشبوا عن طوق تجاهلكم وباتوا خطراً عليكم؟!

إن "عدالة الغرب" التي لا نرى إلا بوارجها، هي من أفرزت الظاهرة بجورها البيّن وظلمها اللامحدود، وهي التي استدعت القرصنة من كتب التاريخ القديمة لتفشو هكذا، وتستجلب صورة القرصان القديم بصورته الكرتونية لتصبح رقماً جديداً فيما وراء البحار وفيما أمام أصحاب الياقات البيضاء في بروكسل ونيويورك، وعلى طاولة المحللين والخبراء.. إن "عدالتهم" قد جلبت لنا قصص التاريخ البحري بقسوته المفزعة بعد أن كدنا ننسى حقائقها وأساطيرها، وعدالتهم هي من أخرجت جنود البحرية الصومالية السابقة عن شعورهم، وصيرتهم من بعدُ يجترئون على هذه العمليات التي لا تنم إلا عن نفوس يائسة حانقة على هذا العالم المنافق الذي ترك الصومال يعاني القهر والاحتلال والمجاعات والمجازر وحده، فيما العالم المتسلط يشاهد ألوان الطيف الميليشياوي تتبدل كل حين بأمره، فكلما خمدت النيران عمدوا إلى إشعالها مجدداً.

أما أصحاب اللجان العربية الذين تركوا إخوانهم يصارعون موجات الجوع والفقر والظلم وحدهم غير مبالين بالحريق إلا حين ينشب في أطراف أثوابهم؛ فما لأعينهم من حق أن ترتفع في عين صومالي بائس، وقد اجترحوا آثام التجاهل والانطواء وتناسوا دروس وحدة المصير والأخوة الجامعة، وفرحوا بما أوتوا..

أفلا يذكرون حين ألقى الصوماليون بالمئات بأجسادهم في مراكب متهالكة طمعاً في نجاة من الحروب والمجاعات؛ فيهلك من يهلك وينجو بعض نحيلي الأجساد الذين تزهد فيهم الأسماك المفترسة.. أفاتهم أنهم حقيقة لم يتلقوا في مدارس وجامعات الاستثمار العربية دروس "الحضارة" التي تنبئهم بأن القرصنة ليست "عملاً حضارياً"!!، وإذ لم يفتهم الفقهاء بأن "القرصنة غير جائزة".. وهم بالكاد لا يعرفون إلا قولاً لأبي ذر الغفاري رضي الله عنه يقول: "عجبت لمن لا يجد القوت في بيته كيف لا يخرج على الناس شاهرا سيفه"؛ ففهموه ـ أو لم يسمعوا به أساساً ـ على هذا النحو العجيب.

إن القرصنة عموما بلا مراء عمل مشين قبيح، ولا تبرير لدينا لها، لاسيما إذا مست دولاً إسلامية وعربية وروعت مسلمين آمنين، وأسهمت في الإضرار بالأمن العربي والإسلامي، واتخذت وسيلة غير مشروعة لتحقيق أهدافها، ولا يمكن على أي حال إلا أن تلقى منا الإدانة والاستنكار والاستهجان..  لكن أكان هؤلاء الذين نسيناهم فاعلين لو مددنا لهم يد العطف والمساندة؟! أكانوا اليوم في أعالي البحار لو أن استثمارات العرب التي طارت في الأزمة الاقتصادية بمئات المليارات ـ وفي غيرها ـ قد نالهم منها مليار واحد فقط؟! أكانوا مقدمين على مغامرات القراصنة لو أن لهم في ركاز العرب نصيباً؟!

لقد يكون خلف القرصنة على السفينة السعودية مؤامرة أمريكية أو صهيونية، وأهداف ترنو إلى ابتزاز الدول الخليجية أو تحجيم مصر، لاسيما مع الأنباء التي تحدثت عن دعم يتلقاه القراصنة من دول لها نفوذ في أعالي البحار، وقد يكون الغرض تدويل مضيق باب المندب، أو الإضرار بطريق الملاحة المختصر (قناة السويس) لحساب رأس الرجاء الصالح (الذي هو بالمناسبة لا يضر الولايات المتحدة كثيراً)، وقد يضحى مبرراً منطقياً للتدخل العسكري على البر كما البحر لتقويض آمال المقاومة الصومالية في فتح مقديشو، أو يكون حائلاً إثيوبياً دون عودة صومال قوي يجعل المطالبة باستعادة الصومال لإقليم أوجادين أو أجزاء من كينيا الحالية إلى الصومال الكبير (الواعد في نشر الإسلام بالقرن الإفريقي)، وقد تكون المسألة عفوية، ومحض تحرك ذاتي من فقراء لم يجدوا سبيلاً للحياة أو حتى للثراء إلا بطريقة كهذه وإن تناخر العالم من حولهم واستنكر؛ إذ لا قيمة هذا العالم بعربه وعجمه لدى القراصنة، لكن الحاصل في النهاية هو أن القرصنة انطلقت من شواطئ الصومال نتيجة الفقر والتجاهل والاستهتار العربي والدولي، سواء أغذاها المغرضون بعد ذلك أو تمادت في عفويتها..

ولو لم يقرأ العالم الحقيقة بلا غطاء؛ فسيظل متردداً بين مشكلة وأخرى، ولو ما لم تسد فيه العدالة، وتعالج أسباب مشكلاته الحقيقية لا أعراضها؛ فسيبقى دائراً في حلقاته المفرغة.. وإذ عادت القرصنة من القرون الغابرة؛ فالرق إذن في الطريق!!