الدكتور بولوز : تعرف مادة التربية الإسلامية في التعليم العمومي والخاص إذا استثنينا التعليم الأصيل والخطوات الجارية في التعليم العتيق، حضورا ضعيفا ومكانة تكاد تكون باهتة، لا من جهة الساعات المخصصة لها ولا من جهة المعامل الذي يحدد قيمتها في نظر التلاميذ وأولياء أمورهم، فهي لا تتعدى ساعة واحدة أسبوعية في الشعب العلمية والتقنية وساعتين في الشعب الأدبية مع وضعية استثنائية لشعبة اجتماعية محدودة تصل فيها عدد الساعات إلى ثلاثة في السنة النهائية، ولا يتم الاختبار فيها على المستوى الوطني لا للشعب الأدبية ولا العلمية وإنما يكتفى بالاختبارات الجهوية.
ولعل من أسباب تهميش مادة التربية الإسلاميةفي نظري: استمرار الأثر الاستعماري رغم مرور أكثر من نصف قرن على الاستقلال، حيث كان المحتل الأجنبي يرى في التربية الإسلامية واللغة العربية عوامل تقوض نفوذه ومقاصده وتقوي النزعة الاستقلالية في الناس، فكان من الطبيعي أن ينزعج منهما ويعمل جهده في إقصائهما، غير أنه للأسف لم يستطع الجيل الذي تربى في أحضانه أن يتخلص من ذلك الميراث وتلك النظرة الدونية لمقوماتنا الحضارية واللغوية واستمر التقليص والتهميش وإن بشكل أقل.
ومن الأسباب أيضا وكامتداد للعامل السابق، النظرة الضيقة للدين، حيث طغى التصور العلماني الذي يفصل الدين عن الحياة، ويسمح له في أحسن الأحوال بزاوية وركن منها لا يحق له التدخل في غيرها، فله من الوزارات وزارة الأوقاف، وله شؤون الأسرة في مجمل القوانين، وله مادة ضمن جملة من المواد الدراسية، وتصوروها على أنها ذات طابع أدبي وإنساني، فضيقوا تواجدها في التخصصات العلمية والتقنية، وأعطوها من الساعات والمعامل ما يناسب نظرتهم للدين إجمالا.
ومن المفارقات العجيبة في بلادنا أن توجيه الناشئة وتربيتهم يتعاقب عليه من زمن غير يسير مسؤولون ووزراء محسوبون على التيارات اليسارية والعلمانية بدءا من السيد الطيب الشكيلي إلى السيد عبد الله ساعف إلى السيد إسماعيل العلوي إلى السيد الحبيب المالكي إلى الوزير الحالي السيد أحمد خشيشن. وفي مثل هذه الأوضاع لا يسأل عادة عن مكاسب للمادة الإسلامية وإنما يكون قصارى الجهد تقليل الخسائر.
الدكتور بولوز : عمل الغيورون في بلادنا من فجر الاستقلال على تصحيح بعض ما قدروا عليه من وضعية المادة الإسلامية ، فقد كانت تدرس مع العربية في ساعة واحدة نصف ساعة لكل واحدة منهما، ثم أصبحت لها ساعة واحدة ولكن بغير معامل ثم تطور الوضع إلى حالتها اليوم، وبقي التدافع قائما حتى لا تجتث من جديد، واحتاج الأمر إلى يقظة مستمرة وتضافر جملة من الجهود سواء من هيئات العلماء أو الجمعية المغربية لأساتذة التربية الإسلامية وجمعيات آباء وأولياء التلاميذ وغير هؤلاء، وبفضل جهود المخلصين من أساتذة ومفتشين وفاعلين تربويين وهيئات المجتمع المدني من جمعيات تربوية وثقافية ودعوية وكذا بعض المنابر الإعلامية تم بحمد الله الحد من بعض آثار تلك الهجمات المتتاليةووصل الوضع إلى نوع من الاستقرار للمادة الإسلامية وإن كان الخطر واردا ومحتملا في كل حين إذا وجدت الغفلة وغابت اليقظة.
الدكتور بولوز : تم إطراء اللغة العربية في ميثاق التربية والتكوين باعتباره الإطار الموجه للعملية التعليمية التعلمية على مستوى العبارات،غير أنه تم إضعافها على مستوى الفعل ووسائل التنزيل. فعلى مستوى تطبيق الميثاق كان الأمر أشد وأخطر، حيث لم تحترم الآجال المحددة فيه للنهوض بتدريس العربية ولا بغيرها، ولم تهيأ الموارد البشرية لحسن تنزيل الإجراءات المقترحة، وأكاديمية اللغة العربية المسطرة فيه لم تر النور بعد والعشرية قد شارفت على الانتهاء. وعرفت العربية هجمات شرسة في الفترة الأخيرة من بعض التيارات الفرنكفونية والأمازيغية المتطرفة وقوي الحنين عند بعضها لاجتثاث بعض مكاسب اللغة العربية كتعريب المواد العلمية إلى مستوى الباكالوريا، فعوض إتمام الخطوة وطرح تعريب التعليم العالي بجدية هناك أصوات تدعو للتراجع عما تم تعريبه.
الدكتور بولوز : أعتقد أن أهم سلبية ملاحظة في مناهجنا التعليمية والتربوية هو سيادة المنهج التجزيئي الذي يتعامل مع كل مادة وكأنها جزيرة مستقلة عن الأخرى وحتى ما ورد في ميثاق التربية والتكوين مما يعتبر مواصفات خريج المدرسة المغربية ينظر إليها بنفس المنظور التجزيئي بمعنى استقلال كل مادة تقريبا بصفة من الصفات، فمثلا تشبع الناشئة بالعقيدة الإسلامية ينظر إليها على أنها من مهام التربية الإسلامية ولا شأن تقريبا للمواد الأخرى بالموضوع، الأمر الذي يضعف معه تحقق تلك المواصفات إن لم يحدث أحيانا كثيرة تضارب في مقاصد المواد، فتهدم إحداها ما تبنيه الأخرى، وربما الشيء الوحيد الذي استطاعت بعض الجهات العلمانية المتغربة من خلال نفوذها في مراقبة المناهج وغربلتها، هو تمرير معنى معين للحداثة وحقوق الإنسان وتكوين حساسية خاصة تجاه العديد من مفاهيمنا الأصيلة عند واضعي المناهج والمشرفين على التأليف بما يجعل المنتوج التربوي يكاد يفرغ تماما من لونه الحضاري المنتسب للأمة وظهر ذلك جليا في مادة اللغة العربية والنصوص الأدبية والمؤلفات المختارة وفي مادة الاجتماعيات والنصوص التاريخية المختارة وكذا النصوص الفلسفية وغيرها.
وأما عن مستقبل مثل هذه التوجهات فبين أنه يصب في عرقلة تصالح الأمة مع ذاتها، وإطالة أمد التبعية وتكوين شخصية هجينة هشة سهلة الذوبان أو الانقياد للفاعلين المؤثرين على الصعيد الدولي ودهاقنة المدنية الحديثة الذين يتفننون في توجيه الأذواق وأنماط السلوك بما يخدم النمط المادي الغربي في الحياة.
الدكتور بولوز : أول معاني التجديد هو النظر فيما يصلح أن يكون مرتكزا للإقلاع والانطلاق، وذلك بالتصالح مع ما هو حق وصحيح وصالح لنصاحبه ويصحبنا في مسيرتنا الحضارية المستقبلية، وهو بالنسبة لنا نحن المسلمين ليس شيئا آخر غير كتاب ربنا وما صح من سنة نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام مصداقا لقوله تعالى: " يَاأَيُّهَاالَّذِينَآمَنُوالاتُقَدِّمُوابَيْنَيَدَيِاللَّهِوَرَسُولِهِوَاتَّقُوااللَّهَ إِنَّاللَّهَسَمِيعٌعَلِيمٌ"، فبهما نمتلك ميزان التشخيص وميزان الأخذ والاقتباس من الذين مضوا من أسلافنا وغيرهم ومن الذين هم معاصرون لنا بغض النظر عن مللهم ونحلهم وفي ضوء مقاصد الشرع وكلياته نبدع لقضايانا الجديدة ومشكلاتنا المستحدثة حلولا مناسبة كما أبدع أسلافنا لأيامهم وزمانهم، وكما يكون التجديد في النظر يلزم أن يكون تجديد في العمل ومن خلاله تختبر الحلول والآراء ويلتزم بالأقوم والأنفع.
الدكتور بولوز : عندما نحكم الأصول ونمتلك الميزان ويكون عندنا التشخيص السليم والصحيح لواقعنا ووقائعنا نكون قد حققنا شرطا مهما من الشروط العلمية للتجديد، و تبقي بعدها الشروط الأخلاقية من تقوى ووفاء لهوية الأمة وأصولها وكذا الاجتهاد في استقلالية القرار والتقدير الحسن للمصلحة ومقدار الوسع بما يمكننا من معرفة متى نأخذ بالعزيمة ومتى نتمتع بالرخصة ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها ولعل في الشورى والوحدة ما يقوينا عن أي تدخل خارجي أو إملاء.
الدكتور بولوز : الهوية الإسلامية والقيم الدينية في المغرب عميقة الجذور وقوية الأصول وممتدة في التاريخ ، واجتثاثها ليس بالأمر السهل أو الهين على من تحدثه نفسه بذلك، وما قد يحدث لا يكون غير نوع من الأذى كما قال تعالى" لَنيَضُرُّوكُمْإِلاَّأَذًى" والتصدي يكون بالتكوين والتربية والتعليم والدعوة الدءوبة المستمرة التي لا تعرف الكلل ولا الملل ، وتلقيح الأجيال ضد السموم القاتلة والمنومة أو المدوخة عبر مختلف المؤسسات المتاحة بدءا من الأسرة إلى المسجد إلى الدعوة الفردية إلى أنشطة الهيئات المدنية والجماعات السياسية والتربوية والاجتماعية، والتدافع مع القوم من خلال المؤسسات الرسمية ذاتها والصدع بالحق وفضح مخططات الخصوم وتحذير الناس منهم والتعاون مع أهل الخير جميعا أين ما كانوا والبحث عن المشترك مع الأطراف التي تشعر بالاستهداف في كل معركة يراد خوضها.