نصاب السرقة ومقاديره المعاصرة (2/2)
15 ذو القعدة 1429
د.فهد المشعل

المبحث الثالث: وزن النصاب (الدرهم والدينار الشرعيين)

المطلب الأول: مقدار الدينار الشرعي:
الدينار: اسم فارسي معرب.
وهو اسم للقطعة النقدية المضروبة من الذهب(1).
وهو المثقال(2).
وأصله من الروم(3) وقد ورد ذكره في قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} (آل عمران: من الآية75).
والدينار الشرعي هو المطابق للأوزان الملكية التي أقرها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: " الوزن وزن مكة والمكيال مكيال المدينة" وذلك أن أهل مكة أهل وزن، وأهل المدينة أهل مكيال، لكثرة ما يكال عندهم.
والدينار الشرعي لم يتغير في جاهلية ولا إسلام.
وهو الذي يعادل السبعة منه زنة عشرة دراهم بالإجماع(4).
أي أنه 1.7 درهم.
وقد ذكر الرواة أن عبدالله بن مروان قد جدد ضربه، مطابقاً للأوزان المكية، قال ابن الأثير: " في ستة وسبعين ضرب عبدالملك بن مروان الدراهم والدنانير، وكان هو أول من أحدث ضربها في الإسلام فانتفع الناس بذلك، وصار وزن كل عشرة دراهم سبعة مثاقيل(5).
وقال الخطابي: " أما الدنانير فمشهور من أمرها أنها كانت تحمل إليهم من بلاد الروم وكانوا يسمونها " الهرقلية ".

يروق العيون الناظرات كأنه    هرقلية، وإن أحمر التبر راجح

ثم روى بإسناده أن عبدالملك بن مروان لما أراد ضرب الدنانير والدراهم سأل فأجمعوا له على أن المثقال اثنان وعشرون قيراطاً إلا حبة بالشامي، وأن عشرة الدراهم وزن سبعة مثاقيل(6).
وقال أبوعبيد: "لم يزل المثقال في أباد الدهر مؤقتاً محدوداً، لايزيد ولا ينقص"(7)
وقال الرافعي: "المثقال لم يختلف في جاهلية ولا إسلام، أما الدراهم فكانت مختلفة، والذي استقر عليه الأمر في الإسلام أن وزن كل عشرة دراهم سبعة مثاقيل ذهب(8) ".
وقال البهوتي: "ولم تتغير المثاقيل في جاهلية ولا إسلام، بخلاف الدراهم(9) "
وقال المناوي: " المثقال أصل متفق عليه، ولم يختلف في جاهلية ولا إسلام "(10).

أما وزنه بالحبوب:
فقد قدر أكثر الفقهاء وزن الدينار الشرعي بزنة اثنتين وسبعين حبة شعير متوسطة لم تقشر وقطع من طرفيها ما امتد(11).
وقيل: مائة شعيرة(12).
وقيل: اثنتان وثمانون(13).
أما بحب الخردل- وهو أدق من الشعير- فقدره بعضهم بستة آلاف(6000) حبة(14).

المطلب الثاني: مقدار الدرهم الشرعي:
الدرهم: مفرد دراهم، وهو لفظ يوناني معرب، وهو نوع من النقد يضرب من الفضة(15).
وقد ورد ذكره في قوله تعالى:  (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) (يوسف:20)، وهو مختلف الأنواع والأوزان.
لكن الدرهم الإسلامي الشرعي هو المطابق للأوزان المكية التي اقرها النبي صلى الله عليه وسلم لأهل مكة كما تقدم.
وهو الذي يزن العشرة منه سبعة مثاقيل باتفاق العلماء(16).
وعليه هكذا في عامة البلاد(17).
وعليه فإن الدرهم سبعة أعشار المثقال(18).
وتسمى الأربعون منه أوقية بلا خلاف.
وجدد عبدالملك بن مروان ضربه حسب ا,زان الجاهلية وصدر الإسلام مع الدينار.
قال الخطابي: " وزن أهل مكة هو دراهم الإسلام المعادلة العشرة منها بسبعة مثاقيل، والدراهم مختلفة الأوزان لكن منها الدرهم الوزان ".
وقال ابن خلدون: " الإجماع منعقد منذ عصر الإسلام وعهد الصحابة والتابعين على أن الدرهم الشرعي هو الذي تزن العشرة منه سبعة مثاقيل من الذهب، أي أنه سبعة أعشار الدينار(19).
وقال النووي: " الصحيح الذي يتعين اعتماده أن الدراهم المطلقة في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت معلومة الوزن معروفة المقدار، وهي السابقة إلى الأفهام، وبها تتعلق الزكاة وغيرها من المقادير الشرعية، ولا يمنع هذا من كونه كان هناك دراهم أخرى.
وكل درهم ستة دوانيق، وكل عشرة سبعة مثاقيل، وأجمع أهل العصر الأول فمن بعدهم على هذا، ولا يجوز أن يجمعوا على خلاف ما كانوا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، والله أعلم(20).
وقال ابن قدامة: " والدراهم التي يعتبر بها النصاب هي الدراهم التي كل عشرة منها وزن سبعة مثاقيل بمثقال الذهب.
وهي الدراهم الإسلامية التي تقدر بها نُصُبُ الزكاة ونصاب القطع في السرقة وغير ذلك، وكل درهم ستة دوانيق"(21)

أما وزونه بالحبوب:
فقد قدر جمهور الفقهاء وزن الدرهم بخمسين حبة شعير من النوع المتوسط(22).
قال ابن خلدون: "... فالدرهم الذي هو سبعة أعشار المثقال وزنه خمسون حبة وخمسا حبة، وهذه المقادير ثابتة بالإجماع(23) وقدّره آخرون بسبعين حبة.
أما بحبوب الخردل فقدّره بعضهم بـ 4200 حبة(24).

المطلب الثالث: وزن الدينار والدرهم بالغرام:
انقطعت الصلة بين المسلمين وبين درهمهم ودينارهم الذي أحالهم عليه الشرع، وهو ما كان متعارفاً بينهم إبان نزول الوحي، وذلك بسبب تغيير الخلفاء والحكام للنقود المتداولة بين الناس.
وهذا أمر خطير دعا علماء الأمة إلى الاهتمام بهذا الموضوع، لصلته الوثيقة بالأحكام الشرعية، كنصب الزكاة ومقادير الديات والقطع في السرقة ونحو ذلك.
ولقد بذلك أولئك جهوداً شتى لمحاولة الوصول إلى حقيقة وزن الدينار والدرهم الشرعيين.
وسلكوا في سبيل ذلك مناهج مختلفة، منها:
أولاً: الرجوع إلى الوزن بالحبوب، فقد جعل بعض الباحثين الحبة هي الأساس، فقاموا بوزن حبات الشعير أو القمح أو الخردل التي حددها الفقهاء بالغرامات، فظهر لبعضهم أن وزن الدينار الذي هو على مذهب الجمهور 72 حبة شعير متوسطة يعادل 3.07 من الغرامات وعند آخرين 3.5 من الغرامات.
ووزن الدرهم الذي هو على مذهب الجمهور 2/5.5 حبة يعادل 2.15 من الغرامات وعند آخرين 2.30 من الغرامات.
وبحبوب القمح كانت النتيجة أن وزن الدينار 3.15 من الغرامات.
ووزن الدرهم 2.20 من الغرامات(25).
لكن هذا المسلك غير مرتضى عند أكثر الباحثين، نظراً للتفاوت الكبير في أوزان الحبوب تبعاً للنوع والبلد والوقت، وهو الأمر الذي تيقنت منه بنفسي(26).

ثانياً: الاعتماد على الصنج الزجاجية.
من الباحثين من اهتم بالصنج الزجاجية التي كانت تستعمل معياراً لسلك العملة.
فذكروا أنه يوجد في المتحف البريطاني صنجة للدرهم الشرعي تعطي وزن 2.98 من الغرامات.
لكن هذا المسلك غير دقيق أيضاً، نظراً للتفاوت في الوزن بين الصنج المختلفة(27).

ثالثاً: الاعتماد على حقيقة وزن الدرهم والدينار الشرعيين.
وهذا المسلك ارتضاه الباحثين، وهو يعتمد على أن الدينار والدرهم اللذين ضربهما عبدالملك بن مروان شرعيان، وهما موجودان في المتاحف ودور الآثار، ويستفيد هذا المنهج من اتفاق العلماء على ثبات النسبة بين وزن الدرهم والدينار بحيث إذا علم أحدهما علم بالآخر قطعاً.
وقـد تقدم أنـه لا خـلاف بين فقهاء المذاهب الأربعة في أن درهم ودينار عبدالملك يمثلان الدرهم والدينار الشرعيين.
يؤكد ذلك أن أبا عبيد ذكر في كتابة(الأموال) أن درهم بني أمية موافق لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصدقة، ولا وكس ولا شطط، وأن الأمة أجمعت على هذا.
وذكر أن عشرة الدراهم تساوي سبعة مثاقيل، وكذا فعل المقريزي(28).
وقال القاضي أبو يعلي: " قد استقر في الإسلام على أن وزن الدرهم ستة دوانيق، وكل عشرة منها وزنها سبعة مثاقيل"(29).
وحيث تبوأ دينار عبدالملك هذه المكانة فلابد من معرفة أوزانه.

وقد قام مجموعة من الباحثين بوزن دينار عبدالملك من المتاحف الإسلامية والعالمية ومنهم:
1- الاستاذ ناصر النقشبندي مدير المسكوكات والأبحاث الإسلامية بالمتحف العراقي، قام بوزن أربعة دنانير من دنانير عبدالملك ضربت عام 80-86 هـ فوجد أن متوسط وزنها بلغ 4.267 من الجرامات(30).
2- المؤرخ علي باشا مبارك، قام باستقراء النقود الإسلامية المحفوظة في المتاحف الأجنبية وقام بوزن سبعة دنانير من دنانير عبدالملك فوجد متوسطها 4.25.
3- بعض الغربيين وزنه فوجده 4.233 من الجرامات(31).
4- محمد نجم الدين الكردي ذكر في كتابه أنه قام بوزن 33 ديناراً ضربت في عهد عبدالملك يوجد منها في المتحف العراقي وفي المتحف الإسلامي وفي متحف لندن ومن متاحف أجنبية أخرى.
فصارت النتيجة أن متوسط أوزانها 4.34 بالتقريب.
ونقل الكردي أن متوسط وزن 26 ديناراً من دينار عمر بن عبدالعزيز هو 4.25 م الغرامات في المتاحف الأوربية.
وفي المتحف العراقي دينار واحد زنته 4.26 من الجرامات.

أما الدرهم:
فإذا أخذنا بالنسبة التي ذكرها الفقهاء بين الدرهم والدينار وجدنا أن الدرهم:
يزن 2.97 من الغرامات على اعتبار أن الدينار 4.25 من الغرامات حاصل 4.25 × 7/10 = 2.97، وإذا رجعنا إلى الأوزان الحقيقية لما هو موجود في المتاحف المختلفة من دراهم عبدالملك بن مروان وجدنا أن الكردي ذكر أن متوسط أوزان 32 درهماً هو 2.77 من الجرامات، وهو قريب مما ذكر الفقهاء، ولا يستغرب اختلاف أوزان الدراهم والدنانير القديمة، نظراً لبدائية الآلات التي سكت بها، وفي المتاحف بعض هذه الآلات.

وبهذا تكون المحصلة الأخيرة هي ان وزن الدينار 4.25 بالجرامات ذهباً ووزن الدرهم 2.97 من الجرامات فضة.
وهذا الذي اختاره الشيخ محمد ابن عثمين رحمة الله تعالى.
والدكتور يوسف القرضاوي.
واعتمدته الموسوعة الفقهية الكويتية(32) ودائرة المعارف الإسلامية(33).
وموسوعة وحدات القياس العربية.
ولأنه ترجح أن نصاب القطع في السرقة هو ربع الدينار تكون النتيجة أن نصاب السرقة هو 1.06 من الجرامات من الذهب حاصل قسمة 4.25 على أربعة.
ولأن سعر الذهب في 5/5/1428هـ هو(68) ريالاً سعودياً يكون النصاب بهذه العملة الورقية ذلك اليوم هو(72) ريالاً، وهكذا في كل بلد يضرب الجرام وستة في المائة والذهب بسعره بعملتهم المتداولة يخرج لهم قدر النصاب.
أما الفضة فيكون النصاب عند من يرى التقدير بالفضة 8.91 من الجرامات من الفضة، حاصل ضرب 2.97 في ثلاثة، تقدر وقتها بعملة البلد التي وقعت فيها السرقة يظهر لهم النصاب، والله أعلم.

المبحث الرابع: وقت تقويم النصاب
إذا سرق السارق سلعة واحتجنا إلى تقديم سعرها فهل نقدرها يوم السرقة أو يوم الحكم عليه؟
اختلف الفقهاء في ذلك إلى قولين، وتظهر ثمرة خلافهم عندما يختلف سعر السلعة يوم السرقة عن سعرها يوم الحكم على السارق، بأن تكون نصاباً يوم السرقة ثم يقل سعرها عن النصاب يوم الحكم.
القول الأول: ذهب أكثر أهل العلم من المالكية(34) والشافعية(35) والحنابلة(36) والحنفية في قول لهم إلى أن المسروق يقوم يوم السرقة، فإذا بلغ نصاباً قطع السارق وإلا فلا، ولا أثر لتغير قيمته بعد إخراجه من الحرز، فلو نقصت قيمته عن النصاب يبقى القطع.

أدلة الجمهور:
استدل الجمهور على مذهبهم هذا بالآتي:
1- قول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} (المائدة: من الآية38).
ووجه الاستدلال: أن المختلف فيه سارق لنصاب كامل، فيقطع لدخوله في عموم الآية(37).
ونوقش: بان هذا عام مخصوص، ونحن نسلم بأن الآية تدل على وجوب قطعه، لكن الأمر هل يسقط القطع بعد وجوبه أو لا؟(38)
ويمكن الجواب: بأن الأصل بقاء حكم العموم حتى يرد المخصص، ولا مخصص في مسألتنا ولا مسقط.
2- أن النقص الحادث بعد انفصال المسروق من الحرز نقص طارئ حديث في العين، فلم يمنع من ثبوت القطع، كما لو حدث نقصان للعين باستعمال السارق أو غيره.

ونوقش بأمرين:
الأمر الأول: أن هناك فرقاً بين نقصان العين ونقصان السعر، فإن نقصان العين مضمون على السارق، فيقطع فيه بخلاف نقصان السعر فهو غير مضمون عليه ولا اختيار له فيه(39).
وأجيب: بعدم التسليم، ذلك أن نقصان السعر مضمون مع التلف، فأشبه نقصان العين فاستويا.
الأمر الثاني: أن قولكم " ما يطرأ في الحدود غير مؤثر " منتقض بدلالة ردة الشهود وفسقهم، فإنه طارئ مؤثر في إسقاط شهادتهم وإسقاط الحد الناتج عنها، فكذا طروء نقصان النصاب(40).
ويجاب: بعدم التسليم بهذا الناقض، وذلك أنه في حالة ردة الشهود وفسقهم تبينا عدم صحة شهادتهم وعدم وجود الحد أصلاً يوم السرقة.
بخلاف نقصان النصاب الطارئ، فلم يكشف لنا عن شيء كان مجهولاً يوم السرقة، فيبقى وجوب الحد كما كان.
3- أن الاعتبار في الحدود حال الوجوب لا حال الاستيفاء، كالبكر إذا زنى فلم يحد حتى أحصن، وكالعبد إذا زنى فلم يحد حتى أعتق، فالحد الواجب عليهما أولاً لا يتغير.
ونوقش: بأن هذا منتقض بما لو ثبت بإقرار أو بينة المسروق كان مملوكاً للسارق.
ويجاب: بأنه في هذه الحالة تبينا عدم وجوب الحد عليه أصالة لانتفاء شرط القطع يوم السرقة بخلاف مسألتنا، فشروط القطع فيها مكتملة يومها.
4- أن القدر شرط في وجوب القطع، فوجب أن يكون نقصانه بعد وجوب القطع غير مؤثر في إسقاطه قياساً على خراب الحرز.
أي أن النصاب شرط لوجوب القطع فلم تشترط استدامة كالحرز، فإن الحرز إذا خرب بعد السرقة فلا قائل بسقوط الحد يومئذ، فكذا نقص السعر.

5- أنه سارق لنصاب من حرز مثله ولا شبهة فيه، فوجب قطعه أصله إذا لم تنقص القيمة.
6- أن سبب القطع هو السرقة، فكان المعتبر وقتها لا وقت الحكم.

القول الثاني: أن المعتبر في التقويم هو وقت الإخراج من الحرز ووقت الحكم معاً، فأذا تغيرت الأسعار بان نقصت قيمة المسروق عن النصاب قبل الحكم فلا يقام عليه الحد، وهذا ظاهر عند الحنفية(41).
واستدلوا بالأتي:
1- قالوا: إن القيمة إنما تعلم بالحرز والظن، ونقصها وقت الحكم يورث شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات.
ويناقش: بأن الشبهة المعتبرة هي الشبهة القوية المؤثرة لا كل شبهة، بدلالة اتفاقنا على أن نقص العين وخراب الحرز بعد السرقة شبه غير مؤثرة، فكذا شبهة نقصان القيمة.
2- أن نقص السعر صفة للعين المسروقة، ولو كانت موجودة عند السرقة لم يجب القطع بها، فإذا طرأت لم يجب القطع لأجلها، أصله ما لو ثبت بإقرار أو بينة أنها ملك للمسروق(42).
ونوقش: بأن قاعدتكم " الطارئ المسقط كالموجود ابتداء " تنقض بخراب الحرز، فإنه يمنع من وجوب القطع عند ابتداء السرقة، ولا يمنع إذا طرأ خرابه بعد الإخراج(43).
ثم المعنى في الأصل أنه إذا ثبت أنه مالك للمسروق استدل بذلك على أنه كان مالكاً لها عند إخراجها على نقصها عند إخراجها، فلذلك يقطع(44)، فالمعيار هو يوم الإخراج.
3- أن حد السرقة وضع لصيانة المال، كما وضع حد القذف لصيانة الأعراض، وكل واحد من الحدين لا يثبت إلا بخصم، وتغير صفات المقذوف قبل استيفاء الحد بأن يزني بسقط الحد، فكذا تغير صفة المسروق قبل الاستيفاء يجوز أن يؤثر في سقوط الحد(45).
ونوقش: بأن هذا منتقض كذلك بخراب الحرز، فإنه لا يؤثر في سقوط الحد، ثم المعنى في زنا المقذوف بعد قذفه أنه دل حدوثه على انتفاء عفته أصلا.
بخلاف تغير سعر المسروق فإنه أمر طارئ فلا يؤثر فيما مضى كما مر.
الترجيح:
بعد عرض القولين وأدلتهما والمناقشات يظهر لي والله أعلم رجحان القول الأول وهو عدم تأثير نقصان القيمة في نصاب السرقة، وأن التقويم إنما يكون وقت السرقة لا غير، ولا أثر لتغير السعر في إسقاط الحد، وذلك:
أ‌- لثبوت الحد بتمام شروطه وقت السرقة.
ب‌- أن هذا القول موافق لعمومات النصوص في الكتاب والسنة الموجبة لقطع السارق.
ت‌- أنه يترتب على الأخذ بالقول الثاني مفاسد، منها:
1- عدم استقرار حد السرقة، إذ يجوز أن ينقص السعر في أي وقت كان.
2- أنه لو نقص السعر بعد تنفيذ الحد لجاز للسارق أن يطالب بدية يده من الحاكم.
3- أن السارق لو علم بهذه الشبهة وكان له أعوان، لما عجزوا عن ضخ كميات كبيرة من السلعة المسروقة ليقل سعرها، ويسلم صاحبهم من القطع.
4- أنه يلزم على قاعدة هذا القول أن يقطع من لا يستحق القطع، وهو من سرق ما دون النصاب ثم زادت قيمة ما سرق بعد ذلك فصارت نصاباً، ولم يقل بذلك أحد(46).
والله أعلم وأحكم.
 
في ختام هذا البحث أحمد الله العلي القدير أن أعانني على إتمامه ويسر، ثم أضع بين يدي القارئ أهم ما توصلت إيه من نتائج مرقمة حسب ورودها في البحث:
1- أن حقيقة السرقة: أخذ المال خفية من مالكه بغير حق.
2- أنه يشترط لقطع يد السارق أن يكون مكلفاً، وأن يبلغ ما سرقه نصاباً، ويخرجه من حرز مثله، وتنتفي عنه الشبهة، ويطالبه المسروق بماله ويرفعه للحاكم.
3- أن القول بسرقة ما دون النصاب قول مرجوح خالف إجماع هامة الأمة.
4- أن أولى وجو التفسير لقوله صلى الله عليه وسلم " لعن الله السارق.. إلخ " هو أن ذلك محمول على وجه المبالغة، التي معناها أن السارق تقطع يده العزيزة عنده في شيء يسير مقارب لثمن البيضة والحبل، وهو ربع الدينار.
5- أن للفقهاء في مقدار النصاب أقولاً كثيرة، أرجحها بالدليل والتعليل القول بأن نصاب السرقة ربع دينار إسلامي فما فوقه.
6- أن الدينار الإسلامي نقد من الذهب كان موجوداً في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ووزنه مثقال، وقد جدد عبدالملك بن مروان موافقاً للأوزان النبوية، وقد وُجدت بحمد الله نُسخ من هذا الدينار في المتاحف العربية والغربية، وساعد ذلك الباحثين على الوقوف على الوزن الحقيقي للدينار الإسلامي.
وكانت الحصيلة أنهم توصلوا إلى أن الدينار بالجرامات المعاصرة يزن 4.25 وأن ربعه 1.06 من الجرام وهو نصاب السرقة.
7- أن الوقت المعتبر لتقويم المسروق هو يوم السرقة، فإذا بلغ نصاباً يومها استحق السارق القطع، ولو نقص سعر المسروق عن النصاب بعد ذلك.
8- أن الخلاف الضعيف لا يورث شبهة يُدرأ بها الحد، لأن المعتبر من الشبهات ما كان قوياً وإلا ما أقيم حد قط.

وأخيراً: أوصي إخواني القضاة في المحاكم الشرعية بالحرص على إقامة حد السرقة لكل من سرق نصاباً، والحزم في ذلك، لأن هذا هو الجزاء المناسب والعلاج الرادع للحد من كثرة السرقات، مع عدم الالتفات إلى الدعايات المغرضة التي تبثها المنظمات العالمية بهدف تعطيل الشرائع ودعوى حقوق الإنسان، بل من حقوق الإنسان أن يأمن على أمواله في حال غيبته وحضوره، ولا أمن دون حد.
والله تعالى أعلم وأحكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

_______________
(1) لسان العرب مادة " دينار " حاشية ابن عابدين 2/296.
(2) لكن المثقال مجرد معيار وزن، والدينار يكون من ذهب، فتح القدير 2/212، تبين الحقائق 2/106، مواهب الجليل 2/279، أسنى المطالب 4/137، الشرح الكبير 2/495، كشاف القناع 2/229، وانظر: موسوعة وحدات القياس العربية /32.
(3) مقدمة ابن خلدون /183، فتوح البلدان/ 452.
(4) البدائع 2/16، الهداية وفتح القدير 2/215، البحر الرائق 5/85، الذخيرة 3/10، شرح الخرشي 177، حاشية العدوى 1/23، الأحكام السلطانية للماوردي/215، المجموع 6/15، مغنى المحتاج/389، المستوعب 3/279، الشرح الكبير 26/495، كشاف القناع 2/229.
(5) الكامل في التاريخ 4/161.
(6) معالم السنن 5/13-14.
(7) الأموال/522 وفتح القدير 2/212
(8) فتح العزيز 6/5، وكذا في روضة الطالبين 2/257 للنووي.
(9) كشاف القناع 2/299.
(10) النقود والمكاييل والموازين، ص 36.
(11) فتح البلدان 453، مقدمة ابن خلدون 453، مواهب الجليل 2/290، بلغة السالك 1/217، مغني المحتاج 1/389، المصباح المنير 1/200، شرح المنتهي 1/402، كشاف القناع 2/229.
(12) البحر الرائق 2/296، اللباب 1/148، الدر المختار 2/296.
(13) المجموع 6/16، نيل الأوطار 5/257، كشاف القناع 2/229، المحلى 11/353.
(14) تحرير الدرهم والمثقال للذهبي، بواسطة: فقه الزكاة للقرضاوي 1/257.
ويقول القرضاوي: " الاعتماد على حب الخردل في امتحان الدرهم والدينار لا يكفي، للتفاوت الملحوظ في حبات الخردل كما جربت ذلك بنفسي " فقه الزكاة 1/258.
(15) الصحاح ولسان العرب مادة " درهم " والمصباح المنير مادة " دره ".
(16) البدائع 2/16، الهداية وفتح القدير 2/15، البحر الرائق 5/85، الذخيرة 3/10، شرح الخرشي 2/177، حاشية العدي 1/433.
الأحكام السلطانية للمارودي /215، المجموعة 6/15، مغنى المحتاج 1/389، المستوعب 3/279، الشرح الكبير 26/495، الفروع 2/455، كشاف القناع 2/229.
(17) البناية على الهداية 6/380.
(18) نيل الأوطار 5/257.
(19) مقدمة ابن خلدون / 184.
(20) المجموع شرح المهذب 6/15-16، وانظر: الحاوي للفتاوي للسيوطي 1/159، قطع المجادلة عند تغيير المعاملة.
(21) المغني 4/209، المبدع 2/364.
(22) الأم للشافعي 2/33، مغني المحتاج 1/389، التاج والإكليل 2/279، مواهب الجليل 2/279، بلغة السالك 1/217، المبدع 2/364، كشاف القناع 2/229، والنقود والمكاييل /52.
(23) مقدمة ابن خلدون /184.
(24) كتاب الإيضاح والتبيان ص 3، بواسطة كتاب المقادير الشرعية ص 96.
(25) ينظر: كتاب المقادير الشرعية للكردي/106، كيف تزكي أموالك 22.
(26) ينظر: فقه الزكاة 1/258، المقادير الشرعية 106، المكاييل والموازين لعلى جمعة، ص 7.
(27) ينظر هذا المسلك مع رده في كتاب المقادير الشرعية للكردي ص 116.
(28) النقود للمقريزي ص 30.
(29) الأحكام السلطانية 174، وتقدم تقرير ذلك.
(30) الدينار الإسلامي، ص 24-25، بواسطة كتاب موسوعة وحدات القياس ص 200، وكتاب المقادير الشرعية ص 125.
(31) المقادير الشرعية 125.
(32) الموسوعة الفقهية 21/226.
(33) دائرة المعارف الإسلامية 9/226.
(34) المدونة 4/539، المعونة 3/1419، شرح الزرقاني 8/94، القوانين الفقهية /236، الشرح الصغير بلغة السالك 2/429، حاشية الدسوقي 4/333.
(35) الأم 8/370، الوسيط 4/132، فتح العزيز 11/180، الحاوي الكبير 17/167، أسنى المطالب 4/137، نهاية المحتاج 7/420، مغنى المحتاج 4/158.
(36) الهداية 2/140، المحرر 1/157، الفروع 6/126، المقنع في شرح الخرقي 3/1132، شرح الزركشي 6/348 ن كشاف القناع 6/132.
(37) الشرح الكبير 26/497، والحاوي الكبير 17/168.
(38) التجريد في الفقه 11/5981.
(39) بدائع الصنائع 7/79.
(40) التجريد 11/5982.
(41) بدائع الصنائع 7/79، التجريد في الفقه 11/5980، البحر الرائق 5/85، الجوهرة النيرة 2/212، ملتقى الأبحر 1/350.
(42) التجريد في الفقه 11/5980.
(43) الحاوي الكبير 17/168.
(44) المرجع السابق.
(45) التجريد 11/5981.
(46) هذا ويبقى في تقويم النصاب مسائل كثيرة تتعلق بذات التقويم أكثر من تعلقها بخصوص النصاب، كمسألة من يتولى التقويم؟ وعدد المقومين، وماذا يشترط فيهم من جهة العدالة والخبرة، والحكم عند اختلاف المقومين، وبلد التقويم.
ويختصر ذلك ابن نجيم بقوله: " ولا يقطع بتقويم الواحد، بل لا بد من تقويم رجلين عدلين لهما معرفة بالقيمة.. "
البحر الرائق 5/55، وأنا أحيل في تفاصيلها إلى بحث مقدم إلى قسم الفقه بكلية الشريعة بالرياض لنيل درجة الماجستير اعتنى بهذا الخصوص وهو بحث " التقويم في الفقه الإسلامي" للباحث د. محمد الخضير، واحسبه استوفى جميع هذه المسائل، والله ولي التوفيق.