أطرف تعليق!!
6 ذو القعدة 1429
أمير سعيد













كل من شاهد صور الغارة الأمريكية على الأهل البسطاء في قرية البوكمال بسوريا كاد قلبه يتفطر، ومن أكثر الصور إيلاماً في تلك اللحظة، كان مشهد الطفلين الكفيفين وهما يبكيان والدهما الشهيد الذي قتل وهو يكد طلباً للرزق من عمل يديه، حيث لا تفرق "العدالة الأمريكية" ما بين قائد لتنظيم القاعدة، وعامل بناء يعاني الطقس والظروف المريرة ليرتزق بلقيمات تسدد عن أولاده الجوع وتعينه على شظف العيش.

المشهد برمته، بدمائه وجنازته كان مفعماً بالشعور بالقهر والإذلال لشعوبنا العربية المسلمة، وكانت التظاهرات التي خرجت ـ ولو على نحو غير عفوي ـ في دمشق معبرة عن غضب شعبي أراد النظام السوري إظهاره للعالم، شاهدة على أن الألم مستبد بنفوس الأهل، ليس من جبروت الأمريكان فحسب وإنما كذلك من هدوء الحكومة السورية وتعاملها الرخو مع هذه الإهانة الأمريكية لنظام "الصمود والتصدي".

ولعلهم قد تذكروا خروج العقيد القذافي في تظاهرة إبان العدوان على العراق للاحتجاج عليه، من دون أن يكون قادراً على فعل ما يجاوز قدرة المواطن العربي العادي، وهي الصراخ والهتافات الثورية.

والحق أن احترام مشاعر الغاضبين يستدعي من المسؤولين التحلي بالصمت، إن كانوا عاجزين عن الفعل، أو التلويح بما يمكنهم في الحقيقة فعله، أو تجييش شعبهم وراء هدف واقعي بمقدورهم تحقيقه، أو على الأقل نيل شرف العمل على إنجازه قدر المستطاع، أمَا والحال ينقلنا من حيز الألم إلى المفارقة والطرافة في الرد؛ فذاك مما يستفز المشاعر ويفرز المرارة في حلوق المواطنين السوريين خاصة، والعرب على وجه العموم، لاسيما حين تلبس كلمات الاستكانة أردية المقاومة والكبرياء..

فبعد أن طالبت دمشق الولايات المتحدة بالتحقيق في العدوان، أصدر وزير الخارجية السورية وليد المعلم أكثر التصريحات يمكن أن يسمعها إنسان عن العدوان طرافة؛ فقد قال " نحن لا نريد الدخول في حرب مع أميركا، فلديها ما يكفي من الحروب التي تخوضها حول العالم" مضيفاً: "هناك الأزمة الاقتصادية وأزمة الجوع وانتشار الإرهاب وهي أمور كافية بالنسبة لأميركا"؛ فالوزير لا يريد إرهاق الولايات المتحدة بالحروب التي قد تشنها دمشق على أمريكا فلديها ما يكفيها، ولذا فإن سوريا ستعفو عن حقها إذن وتتنازل عن دم شهدائها في البوكمال ريثما تنهض الولايات المتحدة من كبوتها!! وإلا فـ" جميع الخيارات والطرق مفتوحة أمام سوريا" كما قال الوزير في قلب لندن قبل أيام..

ولم ينس الوزير قبل أن ارتوت إدارة بوش من دماء المسلمين وتجشأت، وكاد رئيسها أن يسلم مفاتيح البيت الأبيض لخلفه، أن يقول بلغة حماسية جارفة بعد مباحثاته مع وزير الخارجية البريطاني: " سوريا فقدت الأمل في الحكومة الأميركية الحالية للرئيس جورج بوش.هذه حكومة جاهلة. ولن أضيع وقتي مع هذه الحكومة لن أضيع دقيقة واحدة"!! مشيراً إلى سوريا "دولة متحضرة، وتريد تفسيراً وتحقيقاً في العدوان الذي وقع على أراضيها"، معرباً عن دهشته لسكوت الولايات المتحدة عقب الغارة، قائلاً: "لعلهم كانوا يفكرون كيف يختلقون ردهم" (وهو ما كان الدبلوماسيون أنفسهم مشغولين به بالفعل)!!

هي بالفعل تصريحات طريفة، وتعليقات فكاهية، لكنها شديدة الإيلام حينما تصبح أسقف طموحاتنا في ردود الأفعال هذه الردود الصوتية، ناهيك عن أن تكون في حقيقتها تغطية على عملية قالت الصحف الأمريكية ـ ونحن لا نصدقها ولا نكذبها ـ أنها جرت بعلم دمشق بغرض الخلاص من قيادي في القاعدة (هو أبو غادية) كانت العاصمتان الأمريكية والسورية ترغبان في غيابه فعلاً، لكن الأخيرة فوجئت بانكشاف الغارة بعدما سقطت ضحايا ممن البسطاء فيها على نحو أحرجها أمام مواطنيها والعالم؛ فاضطرت إلى إظهار قدر مكتوم من الغضب، وكذلك قالت الصحيفة العبرية يديعوت أحرونوت ـ وكلامها أيضاً موضع شك ـ حين نقلت عن مصدر استخباري أوروبي قوله "إن منظومة الدفاع الجوي السوري المحلي التقطت المروحيات الأميركية، لكن عندما طلبت قوات الدفاع الجوي من قيادة سلاح الجو في دمشق إذنا بإطلاق النار جاءهم ردا قاطعا بعدم القيام بذلك".  

ومهما كانت الروايات؛ فإن ما حدث من ردود الأفعال مخجل للغاية، لاسيما وواشنطن في الأخير هي من سارعت إلى إغلاق سفارتها في دمشق، ولم يتم طرد سفير العدوان من عاصمة الأمويين الخالدة.

وإن ما يعترينا من خجل إزاء هذه الردود لا ينبغي أن يجير باتجاه هذه العاصمة أو تلك؛ فمعظم عواصمنا قد جعلتنا نطأطئ رؤوسنا مما وضعتنا السياسة العربية فيه، سواء التي تظهر قشرة من المقاومة الزائفة، أو التي تكشفت عن مساوقة مع واشنطن أشد إيلاماً وحسرة وانكساراً.

وأشد من ذلك، أن تفقد هذه العواصم البوصلة، وتحارب طواحين الهواء، وتظل مهمومة بمواطنيها كأعداء عتاة في الإجرام أو خصوم مفترضين، وتوجه مدافعها للقلب كما يحدث في عواصم تحرم على أهلها الحجاب، وأخرى تهاجمها أمريكا و"إسرائيل" بالطائرات؛ فتسارع إلى اعتبار سلفيي طرابلس هم الخطر الأكبر وتحشد جيوشها على حدود لبنان.. فلله أنتم هل كان العدوان على البوكمال غارة سلفية؟!!