فقدنا العز حين فقدنا القلعة
2 ذو القعدة 1429
د. محمد العبدة

 

جاء في معجم البلدان أن قلعة (جعبر) كانت على الفرات قريبة من بلدة الرقة، وقد تملكها مالك بن علي العقيلي، ورأى السلطان نور الدين محمود أنها قلعة مهمة لمصلحة الدولة فاشتراها من صاحبها وعوضه عنها أراضي كبيرة وعشرين ألف دينار، وعندما سئل صاحبها السابق (العقيلي ) أيهما أحب إليك القلعة أم ما أنت فيه الآن، فقال : أما العز فقد فقدناه بمفارقة القلعة.
 
إذا كان العقيلي قد فقد العز بفقد قلعة واحدة فقد فقدنا قلاعا كثيرة، وآخرها هذا الاختراق الإيراني الصفوي لبعض صفوف أهل السنة؛ فظنوا لغفلة منهم أو غباء سياسي أن إيران ومن يمشي في ركابها هم المدافعون عن المنطقة والمواجهون لأمريكا و"إسرائيل"، وهذه مهزلة كبيرة يضحك منها العقلاء لأنهم يعرفون ماذا يجري في الخفاء من علاقات سرية وتحالفات مع الشيطان الأكبر، وليقرأ المغرورون كتاب (تحالف الغدر، العلاقات السرية بين إيران وأمريكا وإسرائيل).
ألم يسمع هؤلاء نبأ ما يحدث في سورية من محاولات لتشييع أبناءها وبناء الحوزات، وفي الوقت نفسه التضييق على المدارس الشرعية لأهل السنة التي هي تابعة لجمعيات أهلية خيرية، وقد صدر أخيرا قرار بإلحاقها بوزارة الأوقاف ومنع أي تبرع لها، ومنع الدراسة في هذه المدارس لغير السوري (وقد استفاد منها سابقا كثير من أبناء الشعوب الإسلامية) كما أبعد المشايخ عن أي مجلس إدارة لأي جمعية أهلية.
 
إن ما تقوم به الجهات المخترقة من أبناء السنة ومنهم دعاة ومثقفون هو تضليل وخيانة للشعوب العربية التي تنتظر منهم أن يكونوا منارة هادية لها، وخاصة في الأزمات والمحن، وأن يحمونها من التشوش الفكري الذي يمارسه الإعلام المناوئ لعقيدة الأمة وثقافتها.
لقد تعرضت هذه الشعوب لكل أنواع "الاستعمار" وكان آخرها "استعمار" الإلغاء حين قررت أمريكا إلغاء العراق من المشرق العربي، كما تعرضت لويلات الاستبداد ومكر الليل والنهار من المبشرين والمستشرقين الذين حاولوا محو مقوماتها بالتدرج والخفاء، والذين يحاربون الإيمان بالإلحاد والوحدة بإثارة النعرات العنصرية والدينية والعربية بإحياء اللغة العامية.
 ومع ذلك صمدت هذه الشعوب التي تحمل ميراثا عريقا في العروبة والإسلام وحافظت على منظومة من الفضائل الأخلاقية. ألا تستحق هذه الشعوب بالنظر لتاريخها وتضحياتها كل التقدير والاحترام بدل أن تجر عنوة إلى مجاهل الخرافة والباطنية، وتجبر بالمناورة على تمجيد من يخادعها ويتستر بحب آل البيت بينما يحملون في صدورهم الحقد على الإسلام والعرب.
 
 لقد حاول سابقا زعماء سياسيون ورؤساء أحزاب جر هذه الشعوب إلى مجاهل القومية العنصرية والاشتراكية والعلمانية ولكنهم فشلوا فشلا ذريعا ورجعوا بخيبة الأمل، ولم تستطع هذه الأيديولوجيات ملء الفراغ ولا استطاعت أن تقضي على اليأس عند كثير من الشباب، لأن ما تسميه هذه الأحزاب (معاصرة أو تنوير أو تقدمية) هو أيضا خرافة، فما من أمة تقطع جذورها لتصبح (معاصرة) فأمريكا التي نشأت قوية جاءت من أوروبا التي تحمل ثقافة البروتستانت، وإن كل مجتمع يفقد هويته سوف يضمحل لفقدان الأهداف التي تحركه.
 
ماذا ربحت تلك الاتجاهات التي تسمي نفسها معاصرة أو تقدمية من محاربة الإسلام، أين طه حسين و(مستقبل الثقافة في مصر) وأين علي عبد الرازق و(الإسلام وأصول الحكم) وأين (تحرير المرأة) كل ذلك ذهب مع الريح لأنه فكر مقلد مهزوم، ونحن نقرأ أن المؤرخ البريطاني (توينبي) لم يكن مقتنعا بالليبرالية، أي بالتحرر من كل معتقد، وهو يفضل أن يرى الإنسانية تسير في طريق محدد واضح المعالم وهو رأي المؤمنين بالله على أن تسير في أمورها تبعا للمصادفات.  ونقرأ عن المؤرخ الألماني (شبنجلر) في تحليله لأفول الحضارات حيث يرى أن شتاء الحضارة هو حين يتخذ الفن طابعا غامضا (السريالية) وحين تتخذ الثقافة طابع الشك وعدم اليقين.
ونقرأ أن رئيس سنغافورة (لي كوان يو) يرفع شعار المحاكاة الصناعية للغرب والتمايز الثقافي عنه ويقول :" وطريق آسيا إلى التقدم ليس التغريب بل معاودتها لاكتشاف ذاتها"
 
إن المتغربين عندنا يدرسون المجتمعات العربية وكأنها مجتمعات غربية ويصورون تطور المجتمع العربي وكأنه مرّ بالمراحل نفسها التي مرّ بها المجتمع الغربي: نظام الرق، فالإقطاع، فالرأسمالية، وهذه كلها أوهام وأباطيل.
المجتمعات العربية تحتاج إلى دراسة ولكن يجب أن تكون دراسة علمية من خلال واقع المجتمعات وخصوصيتها.
 
هؤلاء المتغربون مستلبون عموديا (قطيعة مع التراث الإسلامي) ومستلبون أفقيا (قطيعة مع الجماهير العربية) وحتى لو قالوا : نحن نقصد الغرب بواقعه الحالي (الليبرالية والصناعة) فما أدراهم أن الغرب سيتجاوز واقعه الحالي ويقطع مسافات كبيرة بعد الليبرالية، ويبقى هؤلاء متخلفين عن الركب يلهثون وراءه؛ مع ذلك هم يصرون على محاولة استلاب الشعوب العربية حين يروجون للعولمة الثقافية والاقتصادية ويصدرون حكما قطعيا بأن الأرض أصبحت قرية واحدة ولابد من الدخول في منظومة العولمة (الأحداث الأخيرة أثبتت فشل اقتصاد السوق).
 
ألا تستحق الشعوب العربية التي عانت من اليتم بفقد القيادات المخلصة أن يعيد  هؤلاء (المخترقون) النظر في مواقفهم وأن يكفوا عن إدخال حصان طروادة الصفوي الذي يحمل السم الناقع؛ ألا يكفي هذه الشعوب ما عانته من كوارث وآلام حتى يأتي من يشوش لها فكرها ويوقعها في الانقسامات والتفكك.
 لكن هذه الشعوب تدرك حجم مسؤولياتها وتعي تماما أن القلعة التي تصمد وتحمي كل القلاع الأخرى هي العقيدة الإسلامية الصافية والتي تكون أساس العمل: الاجتماع والسياسة والاقتصاد، والإيمان وحده هو الذي يحمي الناس من الضياع والاغتراب ومن الجري وراء شعارات ومبادئ ربما ضاق بها أصحابها.