القيادة الأمريكية ونهاية الهيمنة على العالم
8 شوال 1429
عماد خضر

لم تواجه القيادة الأمريكية للعالم مأزقاً حقيقياً منذ انتهاء الحرب الباردة مثلما هو حادث اليوم؛ فنظرة سريعة على الأحداث التي نشهدها حاليا شرقاً وغرباً، تثبت أن ادعاءات الإدارة الأمريكية حول قيادتها العالمية في عالم أحادي القطبية كان مبالغاً فيها ورسمت نمر من ورق، وأن قدرتها على قيادة العالم والتعامل مع أزماته المختلفة قد تراجعت وانحسرت تدريجيا بصورة واضحة وإلى حد كبير، ولاسيما مع تفاقم أزماتها المالية والسياسية، بشكل جعل كثيراً من المحللين يتحدثون منذ وقت عن بداية تشكيل نظام عالمي جديد لا يخضع لتوجيه وسيطرة القطب الأمريكي كقوة عظمى وحيدة في العالم .

 

لقد حملت تطورات الأحداث في الأيام والأسابيع القليلة المنصرمة إشارات تقود للإقرار بأن ما عرف بعصر السلام الأمريكي قد أشرف على الزوال وأن الأقدار لم تعطه سوى أقل من عقدين من الزمن. وأكثر الملاحظات جرأة حول ذلك تمكن في المخاطر التي نجمت عن غياب قيادة عالمية مشتركة لمواجهة الأزمات بعد أن تم تغييب الدول الكبرى عنها وعجزت الأمم المتحدة عن طرح مبادراتها وكان البديل هو دولة كبرى تمسك بخيوط اللعبة لا ينازع أو يشارك معها أحد متقوقعة ومنغلقة على ذاتها، في هذا الصدد يقول المفكر الأوروبي (بيتر بيندر) في كتابه “أمريكا الإمبراطورية الرومانية الجديدة” يقول: “إنه عند مقارنة أمريكا الجديدة بروما القديمة نلاحظ” أن القوى العالمية التي لا يوجد لها منافسون هي فئة منغلقة على نفسها، فهي لا تقبل أن تكون متساوية مع الآخرين وهي سريعة في نداء الأصدقاء والتابعين المخلصين وهي لا تعرف خصوماً ولكن تعرف متمردين وحسب، إرهابيين ودولاً ضالة وهي لا تحارب. بل تكتفي بإنزال العقاب وهي لا تشن حروباً ولكن تنشئ سلاماً.

 

 نجد أن الكثير من الكلمات التي ألقيت أمام الدورة الثالثة والستين للجمعية العامة للأمم المتحدة مؤخرا ذهبت إلى هذا الجانب، الرئيس الإيراني أحمدي نجاد قال في كلمته " الإمبراطورية الأمريكية بلغت نهاية الطريق "، وقد وجد ذلك صداه في كلمات الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون في نفس المناسبة عندما أكد أن القيادة الأمريكية للأمم المتحدة وللعالم بلغت بالتأكيد نهايتها المنطقية ليعلن " الحقيقة الجديدة "، وهي أن ثمة مراكز جديدة للسلطة والقيادة في كل من آسيا وأمريكا اللاتينية وعبر العالم النامي الجديد .

 

وفي كلمة شديدة اللهجة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة وصف وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف السياسة الخارجية الأميركية بأنها «أحادية القطب» مما يعني أن واشنطن تعتبر نفسها القوة العظمى الوحيدة في العالم والقادرة على التصرف دون الاهتمام بآراء الآخرين. وقال لافروف أن «وهم العالم الأحادي القطب أربك كثيرين، أنهم يتوقعون أن يحصلوا على تفويض مطلق لحل كل مشكلاتهم مقابل الإخلاص الكامل».

 

ولعل المثير في ملامح الانهيار السريع الذي بدأ يضرب عصر السلام الأمريكي هو اعتراف أركان اليمين الأمريكي وأبواق المحافظين الجدد أنفسهم بحقيقة ما يجري وهنا يلزم التوقف مع بعض القراءات التي كتبت الأيام الماضية. لعل أهمها تلك القراءة التي قدمها (ريتشارد هاس) رئيس مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك، وأحد كبار المنظرين والذي سبق أن أصدر منذ نحو عامين تقريباً ورقة بحثية أشار فيها إلى نهاية عصر السيطرة الأمريكية على منطقة الشرق الأوسط، ويكتب مؤخرا من خلال دورية (فورين افيرز) يكتب عما يسمى (عصر اللا أقطاب)، مؤكداً أن السمة الرئيسية لعلاقات القرن الواحد والعشرين الدولية تتحول لتصبح لا قطبية، أي عالم لا تهيمن عليه دولة أو اثنتان أو حتى عدة دول وإنما فاعلين يمتلكون ويمارسون أنواعاً مختلفة من علاقات القوة،  وهو ما يمثل تحولاً بنيوياً.

 

هناك العديد من المؤشرات الدالة على هذا المأزق، والتي تكشف إلى حد كبير حدود العجز الأمريكي في مواجهة مشكلات العالم والتعاطي معها، ومن ذلك على سبيل المثال حرب جورجيا الأخيرة؛ فالقوة العظمى الوحيدة في العالم لم تستطع ردع قوة أقل منها كثيراً مثل روسيا عن شن حرب مدمرة على دولة حليفة لها في منطقة القوقاز، بل صعدت روسيا من تحديها للغرب وللولايات المتحدة عبر إعلان اعترافها الرسمي باستقلال إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، والتهديد باستهداف الدرع الصاروخية الأمريكية في حال تم نشرها في بولندا أو جمهورية التشيك، كما أعلنت رفضها القاطع للهيمنة الأمريكية على العالم؛ حيث أكد الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف أن بلاده لا يمكنها القبول بنظام عالمي تقتصر فيه سلطة اتخاذ القرارات على دولة واحدة، حتى وإن كانت دولة كبرى مثل الولايات المتحدة، قائلاً: "العالم يجب أن يكون متعدد الأقطاب، إن عالماً أحادي القطب هو عالم مرفوض".

 

كما صرح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة ان السياسات الأميركية «أحادية القطب» فشلت في العراق وأفغانستان، وساعدت على إثارة الصراع الذي وقع في جورجيا في الآونة الأخيرة. لقد أثارت روسيا التي نهضت من جديد غضب واشنطن برفضها الموافقة على زيادة الضغط على إيران بشأن برنامجها النووي وتقاربها مع الرئيس الفنزويلي هوجو تشافيز، فقد أمرت روسيا بتطوير رادعها النووي بنظام دفاع فضائي جديد وأسطول غواصات، وأرسلت طائرتين قاذفتين إلى فنزويلا فيما وصفه محللون بأنه استعراض للقوة في المنطقة الخلفية لواشنطن.

 

ما يجري الآن من تحدي وصعود دول أخرى تسعى لتسجيل موقفها مستفيدة من لحظة التراجع الأميركي في صياغة نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، لا تكون الولايات المتحدة فيه هي اللاعب الوحيد الذي يتحكم في أصول ومخرجات ونتائج اللعبة، فقد بدى خطابها حاليا هزيلا وأكثر تواضعاً وهي المحاصرة بثلاث حروب خارج حدودها وفي الداخل تعاني بألم من أكبر أزمة اقتصادية تعصف بأميركا منذ الكساد الكبير في نهاية العشرينيات من القرن الماضي، وسط انقسامات وخلافات حزبية في سنة انتخابات رئاسية حاسمة ستترك إرث بوش أثراً بعد عين.

 

 

ومع أن الولايات المتحدة الأميركية ستبقى القوة الأكثر نفوذاً في العالم وستمنع أي دولة أو مجموعة دول من تشكيل محور قوي أقوى منها، فإنها ستكون عاجزة عن كبح حركة التاريخ، فرغم أن ميزانية الدفاع والأمن مع تكاليف حرب العراق وأفغانستان والحرب على الإرهاب تتجاوز 700 مليار دولار، أي أكثر مما ينفقه العالم بأسره على الدفاع، ويصل دخلها القومي إلى 14 تريليون دولار أو ربع الدخل العالمي، إلا أن أميركا تبدو في تراجع، ولحظتها التاريخية تبدو كما لو كانت قد انتهت، وهذا التراجع يشمل قطاعات شتى تبدأ من عدم القدرة على حسم الحروب وهزيمة "القاعدة"، إلى الإخفاق في العراق وأفغانستان. وفشلها في عملية السلام بين العرب وإسرائيل والملف النووي الإيراني، وحتى النجاح الوحيد الذي كان يحفظ ماء وجه الإدارة الأمريكية في الشأن الخارجي انهار أيضاً مع وقف كوريا الشمالية تعاونها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية وعودتها لاستئناف النشاط النووي. ومن الجانب الأخلاقي لم يعد النموذج الأميركي مقنعاً في مجال الحريات المدنية والدستورية وفقدت الكثير من بريقها في قوتها الناعمة كمدافع عن حقوق الإنسان .

 

هذه المؤشرات قد تحقق تكهنات المؤرخ بول كينيدي قبل عقدين عن (صعود وسقوط القوى العظمى) والعديد من الكتب والدراسات التي ظهرت خلال الفترة الماضية، والتي تناولت التراجع الأميركي بسبب التعثر في حروبه الخارجية وتجرؤ الآخرين لفرض عالم ما بعد أميركا من القوى الصاعدة وفي مقدمتها الصين والهند والبرازيل وقوى غير حكومية.

 

 
وهنا يطرح العديد من التساؤلات بخصوص ما يجري للولايات المتحدة الأمريكية على وجه التحديد؟ فهل انتهت أخيراً حقبة الهيمنة الأميركية الأحادية التي امتدت منذ نهاية الحرب الباردة؟ وهل هناك نظام عالمي جديد متعدد في طور التشكل؟ أسئلة ستكشف الأيام عن جوابها. ولكن الحقيقة الساطعة هي أن زمن التجبر الأميركي قد ولَّى، وأن هناك من الدول وغير الدول من يسعى الآن بهمَّة لتأكيد ذلك، وللتشديد أيضا على أن القوة الأمريكية تواجه اليوم مأزقاً صعباً بسبب السياسات الانفرادية والعنترية، وبالتالي فإن الخروج من هذا المأزق لن يتأتى إلا من خلال تفعيل التعاون الدولي في مواجهة أزمات العالم المختلفة؛ فمهما بلغت الولايات المتحدة من قوة؛ فإنها لن تستطيع مواجهة الأزمات العالمية المختلفة بمفردها، ومن هنا فإن مهمة الرئيس الأمريكي القادم ينبغي أن تركز على كيفية بناء وتعزيز التعاون مع مختلف دول العالم والمنظمات الدولية المختلفة، لا سيما الأمم المتحدة، بما يضمن مواجهة الأزمات العالمية المعقدة والمتشابكة، ويحقق للمجتمع الدولي الأمن والاستقرار المنشودين. لقد رسخت كلمات الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي فكرة تفعيل التعاون الدولي خاصة مع الكارثة المالية العالمية الحالية بقوله إن "ما هو مهم أن أي دولة مهما تكن قوية، لا يمكنها تقديم معالجة فعالة للأزمة الاقتصادية بمفردها. لذلك من المنطقي أن تأتي من مجموعة (الدول) الثماني". لكنه أضاف أن زعماء الاقتصادات النامية مثل الصين يجب أن يدعوا أيضا إلى القمة .