من تقسيمات الوقف
27 شوال 1439
عبد الله بن عبد اللطيف الحميدي

من نعم الله - تعالى - على عباده: أن جعل أبواب الخير عديدة، ومنها ما يجري فيه الثواب إلى ما بعد الممات، فتزداد الحسنات في السّجلات؛ لأن ثوابها لا ينقطع، بل هو دائم متصل النفع.

 

وإن الوقف في سبيل الله باب عظيم من أبواب البر والإحسان، ومن فضل الله ورحمته أن يسّر هذا الباب لكل مسلم، ورغّب فيه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.

روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له» (1).

وقد ذكر جمع من أهل العلم أن المراد بالصدقة الجارية: الصدقة التي يستمر نفعها، فليست صدقة مقطوعة تُصرف لمحتاج أو مسكين لمرّة واحدة، ويضربون لذلك مثالاً بالوقف في سبيل الله - تعالى - حيث إنه يُحبس أصله ويبقى لأجل أن ينتفع به المسلمون ويصرف ريعه في أوجه المعروف والإحسان.

ومن تيسير الله عز وجل أن جعل الوقف أنواعاً وأقساماً عدّة:
فهو ثلاثة أنواع باعتبار الموقوف عليه:
فالأول: أن يكون الموقوف عليه عملاً خيريا أوجهة خيرية عامة وهو ما يمكن أن نسميه بالوقف الخيري كالوقف على إطعام الطعام وتوزيع المياه وعلاج المرضى أو الوقف على جمعيات البر والمستودعات الخيرية ومكاتب الدعوة ونحوها من الجهات والمؤسسات.

والثاني: أن يكون الموقوف عليه هم الذّرية وهو ما يسمى بالوقف الذُريّأو الأهليّ: كأن يوقف عمارة على أولاده من بنين وبنات ويوزعها بينهم، وغرضه من هذا الوقف لأجل أن يبقى ولا يباع.

والنوع الثالث: هو الوقف المشترك بين الوقف الذّريّ والخيريّ كأن يكون مصرف الوقف موزعا بالنسبة المحددة بين الذرية والمصارف الخيرية أو أن يكون مصرف الوقف للذرية من الجيل الأول والثاني مثلا ثم ينتقل بعد ذلك إلى أن يكون وقفا خيريا يصرف في أوجه البر والخير والإحسان.

كما أن للوقف تقسيماً آخر باعتبار المشروعية والجواز(2):
فهذا وقف صحيح متقبل إن شاء الله - تعالى - كالوقف على أعمال الخير من بناء المساجد أو توزيع المياه أو علاج المرضى ونحو ذلك، والنوع الآخر وقف باطلٌ لا يصح كالوقف على المحرمات أو البدع مثل الوقف على بناء القبور وتجصيصها ونحو ذلك.

وللوقف أيضاً تقسيم ثالث باعتبار محلّ الوقف:
فالوقف إما أن يكون عقاراً ثابتاً كالعمائر والدور والمصانع والمزارع، أو وقفا منقولاً أي متنقلا كالسيارات والنقود والأسهم، أو وقف منافع كأجرة دار أو عقار أو وقف الحقوق كحقوق الملكية الفكرية أو الإعلامية ونحو ذلك.

لقد كان الصحابي الجليل خالد بن الوليد رضي الله عنه من أكثر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جهادا في سبيل الله بل لقّبه الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه سيف من سيوف الله فقال: «نِعْمَ عَبْدُ اللهِ خَالِدُ بْنُ الوَلِيدِ، سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللهِ»(3)وقد انشغل رضي الله عنه بالجهاد في سبيل الله وقيادة المعارك والذّب عن حياض بلاد المسلمين إلا أنه لم يَغفُل جانب الوقف في سبيل الله، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما خالدٌ فإنكم تظلمون خالداً، فقد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله»(4)والمعنى: أنكم تظلمونه بطلبكم الزكاة منه، إذ ليس عليه زكاة فقد وقف في سبيل الله أدراعه (جمع درع) وأعتاده وهي: آلات الحرب من السلاح والدواب وغيرها.
فرضي الله عن خالد بن الوليد.

مَغيبُكَ سَيفَ اللَهِ في غِمدِكَ الثَـرى *** دَليلٌ بِأَنَّ اللَهَ لا شَكَّ واحِدُ
فَلَو أَنَّ فَذّاً خَلَدَتهُ فُتوحُهُ *** لَما كانَ في الأَقوامِ إِلاكَ خالِدُ(5)

واستقى أهل العلم من هذا الحديث جملة فوائد منها:
•    تزكية الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وثناؤه على خالد بن الوليد رضي الله عنه وأنه باذل مسابق في الخيرات، ولو وجبت عليه زكاة لأعطاها ولم يشحّ بها لأنه قد وقف أمواله لله - تعالى - متبرّعا فكيف يشُح بواجب!! بل كيف به وقد جاد بنفسه في سبيل الله أن يبخل بماله أو دنياه الفانية!!!
ويصدق على خالد رضي الله عنه قول الشاعر:

يجود بالنفس إن ضن البخيل بها *** والجود بالنفس أقصى غاية الجود(6)

•    ومنها جواز وقف المنقول وأنه من الوقف في سبيل الله الذي يرجى بره وأجره.

•    ومنها قاعدة: «كل ما جاز بيعه جاز وقفه بشرط دوام الانتفاع»(7) كالعقار والحيوان والسلاح والأثاث وأشباه ذلك، أما ما لا يدوم الانتفاع به كالطعام والشراب فلا يوقف.

•    ومنها أنه لا يشترط للوقف مبالغ كبيرة٬ فقد يكون الوقف مصحفاً أو غرس نخل أو حفر بئر أو جريان نهر أو عتاد وأدراع في سبيل الله أو غيره مما يصح وقفه.

•    ومنها أن أفضل الوقف ما كان أنفع في زمنه للمسلمين فقد يكون الوقف على تعليم العلم أنفعُ وأهمُ في بعض الأزمان، وقد يكون الوقف على الجهاد في سبيل الله أنفع وأهمّ، وقد يكون الوقف على إطعام الطعام وسقيا الماء أنفع وذلك بحسب الأحوال والظروف والأزمان والأماكن.

•    ومنها أن ما أُوقف لا تجب فيه الزكاة لأنه خرج من ملك الواقف إلى ملك الله - تعالى - فلا تجب فيه الزكاة «فالأشياء الموقوفة لا زكاة فيها»(8).

•    ومنها أهمية الأوقاف المخصّصة للصرف على السلاح والصناعات الحربية حيث كانت خير معين على الجهاد وحماية ثغور بلاد الإسلام وتوفير العتاد لرد المعتدين على بلاد المسلمين.

وهكذا فقد عملت الأوقاف على حفظ بيضة المسلمين وحماية ديارهم والحفاظ على عقيدتهم وتوحيدهم وعلمهم وكرامتهم وسمو أخلاقهم، وهناء حياتهم، وحمايتهم من كل ما يضرهم.

____________________________________

(1) أخرجه مسلم (1631).
(2) ينظر للإفادة: الإسعاف في أحكام الأوقاف لبرهان الدين بن أبي بكر، محاضرات في الوقف لمحمد أبو زهرة وغيرهما.
(3) أخرجه الترمذي(3846).وصححه الألباني.
(4) أخرجه البخاري (1468)، مسلم(983).
(5) الأبيات لشكيب أرسلان.
(6) الأبيات لمسلم بن الوليد الأنصاري.
(7) ينظر: فتح القدير للكمال بن الهمام (6/218).
(8) ينظر: "فتاوى اللجنة الدائمة" (9/291).