الاستقامة بعد رمضان
3 شوال 1442
عبد الله بن صالح الفوزان

عن سفيان بن عبد الله رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قل لي في الإسلام قولاً لا اسأل عنه أحداً غيرك" قال صلى الله عليه وسلم: "قل: آمنت بالله ثم استقم"(1) [رواه مسلم].

فالحديث دليل على أن العبد مأمور بعد الإيمان بالله تعالى، بالاستقامة على الطاعة، بفعل المأمور واجتناب المحظور، وذلك بملازمة سلوك الصراط المستقيم، وهو الدين القويم. من غير تعويج عنه يمنة ولا يسرة.

وإذا كان المسلم قد عاش رمضان فعمر نهاره بالصيام وليله بالقيام، وعوّد نفسه على فعل الخير، فعليه أن يلازم طاعة الله تعالى على الدوام، فهذا شأن العبد، فإن رب الشهور واحد، وهو مطلع على العباد وشاهد.

وإن استقامة المسلم بعد رمضان وصلاح أقواله وأفعاله لأكبر دليل على استفادته من رمضان. ورغبته في الطاعة. وهذا عنوان القبول وعلامة الفلاح. وعمل المؤمن لا ينتهي بخروج شهر ودخول آخر. بل هو ممتد إلى الممات، قال تعالى: }واعبد ربّك حتى يأتيك اليقين{(2) ولئن انقضى قيام رمضان فالسنة كلها ظرف للقيام، ولئن انتهى وقت زكاة الفطر، فأوقات الزكاة المفروضة وصدقة التطوع تمتدّ طوال العام، وقراءة القرآن وتدبره وكل عمل صالح مطلوب في كل زمان.

وإن من فضل الله على عباده كثرة أبواب الطاعات وتنوع سبل الخيرات، ليدوم نشاط المسلم ويبقى ملازماً لخدمة مولاه.

ومما يؤسف عليه أن بعض الناس يتعبدون في رمضان بأنواع الطاعات. فيحافظون على الصلوات الخمس في المساجد. ويكثرون من تلاوة القرآن، ويتصدقون من أموالهم، فإذا انقضى رمضان تكاسلوا عن الطاعة. بل ربما تركوا الواجبات، كصلاة الجماعة عموماً أو الفجر خصوصاً، وارتكبوا المحرمات، من النوم عن الصلاة، والعكوف على آلات اللهو والطرب، والاستعانة بنعم الله على معاصيه، فهدموا ما بنوه، ونقضوا ما أبرموه، وهذا دليل الحرمان وعلامة الخسران،نسأل الله السلامة والثبات.

إن مثل هؤلاء يعتبرون التوبة والإقلاع عن المعاصي أمراً مؤقتاً بشهر رمضان. ينتهي بانتهائه، وكأنهم تركوا الذنوب لأجل رمضان لا خوفاً من الله تعالى. وبئس القوم الذين لا يعرفون الله إلا في رمضان.

إن توفيق الله عبده لصيام رمضان، وإعانته عليه نعمة عظيمة، تستدعي من العبد شكر ربه والثناء عليه، ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى بعد تمام نعمة الصيام: }ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلّكم تشكرون{(3).

ومن شكره أن يصوم عقبه، ويعمل الصالحات، فأما مقابلة نعمة التوفيق لصيام شهر رمضان بارتكاب المعاصي بعده، والتكاسل عن صلاة الجماعة. فهذا من تبديل نعمة الله كفراً، ومن فعل ذلك فهو على خطر عظيم.

إن منهج المسلم الحق أن يحمد ربه ويشكره على نعمة الصيام والقيام، وأن تكون حاله بعد رمضان أحسن من حاله قبل رمضان، إقبالاً على الطاعة، ورغبة في الخير، ومسارعة للواجب. مستفيداً من هذه المدرسة المتميزة، وأن يخاف ألا يقبل منه صيامه؛ لأن الله تعالى إنما يتقبل من المتقين.

لقد كان السلف الصالح يجتهدون في إتمام العمل وإكماله وإتقانه، ثم يهتمون بعد ذلك لقبوله ويخافون ردّه. ومن مأثور علي رضي الله عنه: (كونوا لقبول العمل أشدّ اهتماماً منكم بالعمل. ألم تسمعوا الله عز وجل يقول: }إنما يتقبّل الله من المتقين{(4)).

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله r عن هذه الآية: }والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة{(5). قالت عائشة رضي الله عنها: أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: "لا يا ابنة الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون أن لا تقبل منهم. أولئك الذين يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون"(6).

فالحذر الحذر من الانتكاسة بعد الهداية. والاعوجاج بعد الاستقامة، والله الله بالمداومة على العمل الصالح، والاستمرار على فعل الخير، وسؤال الله تعالى حسن الخاتمة.

اللهم أيقظنا من نوم الغفلة، ونبّهنا لاغتنام أوقات المهلة، ووفقنا لمصالحنا، واعصمنا من ذنوبنا وقبائحنا، واستعمل في طاعتك جميع جوارحنا، واجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد . . .

------

([1]) صحيح مسلم 38.

(2) سورة الحجر، الآية: 99.

(3) سورة البقرة، الآية: 185.

(4) سورة المائدة، الآية: 27.

(5) سورة المؤمنون، الآية: 60.

 (6) رواه الترمذي (9/19) وقوله: (أولئك الذين) هكذا في رواية الترمذي، وفي القرآن (أولئك يسارعون) والحديث صححه الألباني (صحيح الترمذي3/79، 80).