القراءات المعاصرة للقرآن الكريم
19 جمادى الأول 1439
د. زياد بن حمد العامر

مـقـدمـة:
الـحمد لله رب العالـمين، والصلاة والسلام على نبينا مـحمد، وعلى آله وأصحابه أجـمعين، أما بعد:
فإن علم العقيدة أنفع العلوم، وذلك أنَّ شرف العلم من شرف الـمعلوم، ففيه بيان حقوقه سبحانه وتعالى على عباده، وما يجب على خلقه من توحيده وإفراده.

 

وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن قوم يخالفون جماعة المسلمين في تأويل القرآن، بل قد يصل بهم الحال إلى القتال على ذلك، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كنا جلوساً ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج علينا من بعض بيوت نسائه، قال: فقمنا معه، فانقطعت نعله، فتخلف عليها عليٌ يخصفها، فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومضينا معه، ثم قام ينتظره وقمنا معه، فقال: " إن منكم من يقاتل على تأويل هذا القرآن، كما قاتلت على تنزيله "، فاستشرفنا وفينا أبو بكر وعمر فقال: " لا، ولكنه خاصف النعل ". قال: فجئنا نبشره، قال: وكأنه قد سمعه) (1).
 

ومع مرور الأزمنة ظهر أناس استحدثوا مصادر جديدة في تلقي الشريعة، أو ابتدعوا طرقاً مخترعة في الاستدلال من مصادر الشريعة، فضلوا وأضلوا، ومن تلك الاستحداثات طرقاً جديدة في التعامل مع كتاب الله وتفسيره، وكان لزاماً على أهل العلم والمختصين تجلية الأحكام العقدية وبيان الحكم الشرعي في مثل هذه المسائل عن طريق منهج علمي واضح، فلذلك كان هذا البحث بعنوان/ القراءات المعاصرة للقرآن الكريم (أسباب ومظاهر الانحراف المعاصر في استدلال المخالفين لأهل السنة)
 

وقد انتظم سلك هذا البحث كما يلي:
-    مقدمة.
-    المبحث الأول: التعريف بأبرز مفردات عنوان البحث.
-    المبحث الثاني: مكانة القرآن عند أهل السنة والجماعة وطرقهم في الاستدلال منه.
-    المبحث الثالث: أسباب ومظاهر الانحرافات في القراءات المعاصرة للقرآن الكريم.
-    المبحث الرابع: نماذج من مفاهيم القراءات المعاصرة للقرآن الكريم.
-    الخاتمة: وفيها أهم النتائج وتوصيات البحث.

 

هدف البحث:
يمكن إجمال هدف البحث في بيان جملة من أسباب ومظاهر الانحراف المعاصر في الاستدلال عند المخالفين لأهل السنة في الكتابات العربية، وإبراز ذلك من خلال القراءات المعاصرة للقرآن الكريم.

 

مشكلة البحث:
محاولة التعرف على أسباب ومظاهر الانحراف في الاستدلال عند أصحاب القراءات المعاصرة للقرآن الكريم.

 

أهمية الموضوع وسبب اختياره:
تبرز أهمية هذا الموضوع وسبب اختياره لعدة أمور:
1-    خطورة الانحراف في مصادر تلقي العقيدة.
2-    خطورة الانفلات في طرق الاستدلال بمصادر التلقي من حيث الإعراض عن طريقة العرب في فهم الكلام، وطريقة الصحابة ومن تبعهم بإحسان في تفسير دلالات الكتاب والسنة.
3-    خطورة ما يحصل من التلبيس المعاصر في أبواب مصادر التلقي وطرق الاستدلال.
4-    تزايد المتأثرين بهذه المناهج المنحرفة ممن يريد الوصول إلى الحق ولكن أخطأ الطريق، بسبب ما تدعيه هذه المناهج من التزام المنهجية العلمية في التعامل مع النصوص الدينية.
5-    أهمية المشاركة في بيان انحراف هذه المناهج وتحذير المجتمع من هذه المزالق التي تحرف المسلم عن الصراط المستقيم.

 

منهج البحث:
يقوم هذا البحث على منهج التتبع والاستقراء والتحليل، بحيث يقف القارئ على النصوص والشواهد التي تثبت نسبة هذه الانحرافات لقائليها مع بيان أسباب ومظاهر تلك الانحرافات، ثم تحليل وجه الانحراف إن كان غامضاً، على أن كثيراً من تلك الانحرافات يظهر وجه فسادها بمجرد تصورها وإظهارها، أما الرد التفصيلي لتلك الانحرافات فلا يتسع له هذا المقام، وله مجال آخر بإذن الله.
أسأل الله فيه التوفيق والسداد، وأن يكون إضافة علمية في الدراسات الشرعية.

 

المبحث الأول: التعريف بأبرز مفردات عنوان البحث.
القراءات في اللغة:
القراءات في اللغة جمع قراءة، وهي مصدر (قرأ)، بمعنى الضم والجمع، والمراد بها التلاوة لأن القارئ يجمع الحروف والكلمات(2).

 

القراءات في الاصطلاح:
مصطلح القراءات المقصود في هذا البحث يعتبر مصطلحاً حادثاً ليس له ارتباط بالمعنى اللغوي، ويرى بعض الباحثين أن مصطلح القراءة في الكتابات المعاصرة يطرح كبديل عن مصطلحات التفسير والتأويل والتدبر ونحو ذلك (3).

 

ومن أنسب تلك التعريفات في المراد بالقراءات المعاصرة أنها: "استخدام النظريات الحديثة في تأويل القرآن الكريم"(4).
 

وليس محل الإشكال استخدام طرق صحيحة في التفسير أو الفهم القرآني، ولكن الإشكال هو في استخدام طرق في التفسير (5) أو الفهم (6) القرآني غير صحيحة أو لم تثبت صحتها و(التوسع في جلب المناهج الغربية وتنزيلها كيفما اتفق على النص القرآني، بغض النظر عن ربانية مصدره) (7)، وصحة طريقة الاستدلال به.
 

وهذه النظريات المستخدمة في تأويل القرآن الكريم ليست حقائق علمية وإنما نظريات لم تثبت بعد، أو ثبت بطلانها.
 

وذلك أن أصحاب هذه القراءات يريدون تطبيق مختلف أنواع المنهجيات التحليلية الغربية الحديثة لكي يتحرر (المجال لولادة فكر تأويلي جديد للظاهرة الدينية) (8)، إذاً فهي قراءات وليست قراءة واحدة.
 

المعاصرة: تفيد أن هذه القراءات عصرية حداثية يجمعها القطيعة مع المناهج القديمة للاستدلال بالنصوص الشرعية عند الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان.
 

 وفي هذا القيد "المعاصرة" يتضح الفرق في المراد بهذا البحث بين القراءات القرآنية التي يراد بها طريقة التلفظ بقراءة القرآن، وبين طريقة تأويل معاني القرآن بناء على النظريات الغربية الحديثة مع قطع الصلة بطرق الاستدلال عند السلف الصالح، فالمراد بالبحث هو الثاني لأنه هو الذي يوصف بالمعاصرة دون الأول.
 

وفي قيد "المعاصرة" أيضاً تخرج القراءات التي نشأت قديماً وظهر فيها الانحراف مبكراً، مثل القراءة المقاصدية للنص الشرعي، والتي تتمثل في إلغاء العمل ببعض النصوص الشرعية من أجل بعض المقاصد الموهومة ونحو ذلك، حيث ظهر الانحراف في هذه القراءة في عصر السلف.
 

وقد جرى بعض الباحثين على استخدام ألفاظ مشابهة للفظ (القراءة المعاصرة)، مثل: (القراءة الجديدة)، أو (القراءة الحداثية)، أو (القراءة العصرانية)، أو (القراءة العلمانية).
 

بناء على ما سبق فيمكن إيضاح المراد الإجمالي للقراءات المعاصرة للقرآن الكريم بأنها:
تعدد الاستدلالات بالقران الكريم بناء على بعض النظريات الحديثة التي لم تثبت أو ثبت بطلانها، والإعراض عن طريقة الصحابة والتابعين في الاستدلال.

 

المبحث الثاني: مكانة القرآن عند أهل السنة والجماعة وطرقهم في الاستدلال به.
يتبوأ كتاب الله عز وجل المكانة العالية في قلوب أهل السنة والجماعة، فهو كلام الله المنزَّل على محمد صلى الله عليه وسلم المتعبد بتلاوته غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود (9).

 

ومن معالم أهل السنة في التعامل مع القرآن أنهم (يجعلون كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم هو الأصل الذي يُعتمد عليه، وإليه يرد ما تنازع الناس فيه، فما وافقه كان حقا، وما خالفه كان باطلا، ومن كان قصده متابعته من المؤمنين وأخطأ بعد اجتهاده الذي استفرغ به وسعه غفر الله له خطأه سواء كان خطؤه في المسائل العلمية الخبرية أو المسائل العملية) (10).
 

وكذلك فإن من معالم أهل السنة أنهم يعتقدون موافقة العقل الصريح للنص الصحيح من الكتاب والسنة، (ولهذا لا يوجد في كلام أحد من السلف أنه عارض القرآن بعقل ورأي وقياس ولا بذوق ووجد ومكاشفة (11) ولا قال قط: قد تعارض في هذا العقل والنقل، فضلاً عن أن يقول: فيجب تقديم العقل)(12).
 

ومن معالم أهل السنة والجماعة في الاستدلال بكلام الله عز وجل: أنهم يأخذون بظاهر النص حتى يأتي دليل صحيح يصرفهم عن هذا الظاهر، والمراد بظواهر النصوص هو: ما يسبق ويتبادر إلى ذهن وفهم السامع صحيح الفهم من معاني ألفاظ الكتاب والسنة(13).
 

وتتمثل أهمية الحديث عن ظواهر النصوص في جهتين:
الأولى: أن الواجب على المؤمن هو فهم النصوص على ظاهرها، وعدم صرف النص عن ظاهره إلا بدليل صحيح، وهذا هو مذهب السلف جميعاً (فمذهب السلف رحمة الله عليهم أجمعين إثباتها وإجراؤها على ظاهرها) (14)، وحتى صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم (لم يكن أحد منهم يعتقد في خبره وأمره ما يناقض ظاهر ما بينه لهم، ودلهم عليه، وأرشدهم إليه، ولهذا لم يكن في الصحابة من تأول شيئا من نصوصه على خلاف ما دل عليه، لا فيما أخبر به الله عن أسمائه وصفاته، ولا فيما أخبر به عما بعد الموت) (15)، و(لما كان الأصل في الكلام هو الحقيقة والظاهر كان العدول به عن حقيقته وظاهره مخرجا له عن الأصل فاحتاج مدعي ذلك إلى دليل يسوغ له إخراجه عن أصله) (16)، وحمل كلام المتكلم (على خلاف ظاهره وحقيقته ينافي قصد البيان والإرشاد والهدى) (17)، و(تيسير القرآن للذكر ينافي حمله على التأويل المخالف لحقيقته وظاهره) (18)، وذلك (لأن ظواهر الكتاب والسنة هي نور الله الذي أنزله على رسوله ليستضاء به في أرضه، وتقام به حدوده، وتنفذ به أوامره، ويُنصف به بين عباده في أرضه.

 

والنصوص القطعية التي لا احتمال فيها قليلة جداً لا يكاد يوجد منها إلا أمثلة قليلة جدا كقوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196]، والغالب الذي هو الأكثر هو كون نصوص الكتاب والسنة ظواهر (19).
 

وقد أجمع جميع المسلمين على أن العمل بالظاهر واجب حتى يرد دليل شرعي صارف عنه إلى المحتمل المرجوح، وعلى هذا كل من تكلم في الأصول.
 

فتنفير الناس وإبعادها عن كتاب الله، وسنة رسوله، بدعوى أن الأخذ بظواهرهما من أصول الكفر هو من أشنع الباطل وأعظمه...
 

وبما ذكرنا يتبين أن من أعظم أسباب الضلال ادعاء أن ظواهر الكتاب والسنة دالة على معان قبيحة، ليست بلائقة، والواقع في نفس الأمر بعدها وبراءتها من ذلك، وسبب تلك الدعوى الشنيعة على ظواهر كتاب الله، وسنة رسوله، هو عدم معرفة مدعيها.
 

ولأجل هذه البلية العظمى، والطامة الكبرى، زعم كثير من النُظَّار الذين عندهم فهم، أن ظواهر آيات الصفات وأحاديثها غير لائقة بالله، لأن ظواهرها المتبادرة منها هو تشبيه صفات الله بصفات خلقه) (20).
 

والمراد أنه لا بد عند تفسير القرآن والحديث من أن يُعرف ما يدل على مراد الله ورسوله من الألفاظ، وكيف يفهم كلامه سبحانه، ومعرفة العربية التي خُوطبنا بها مما يُعين على أن نفقه مراد الله ورسوله بكلامه، وكذلك معرفة دلالة الألفاظ على المعاني؛ فإن عامة ضلال أهل البدع كان بهذا السبب؛ لأنهم أصبحوا يحملون كلام الله ورسوله على ما يدعون أنه دال عليه ولا يكون الأمر كذلك (21).
 

الثانية: كثرة الانحرافات في التعامل مع ظواهر الكتاب والسنة، كما هو حال كثير من المناهج المخالفة لمنهج أهل السنة والجماعة.
 

ومن مقولات تلك المناهج المنحرفة ما قرره بعضهم من وجوب اعتقاد أن مراد الله هو غير ظاهر النصوص فقال: (يجب القطع فيها أن مراد الله منها شيء غير ظواهرها، ثم يجب تفويض معناها إلى الله تعالى ولا يجوز الخوض في تفسيرها) (22).
 

ويقرر آخر أن الأخذ بظواهر النصوص يعتبر من أصول الكفر فيقول: (لا يجوز تقليد ما عدا المذاهب الأربعة، ولو وافق قول الصحابة والحديث الصحيح والآية، فالخارج عن المذاهب الأربعة ضال مضل، وربما أداه ذلك للكفر ; لأن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر) (23).
 

وقد رد الشنقيطي على النقل الأخير فقال: (فانظر يا أخي - رحمك الله - ما أشنع هذا الكلام وما أبطله، وما أجرأ قائله على الله وكتابه، وعلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه سبحانك هذا بهتان عظيم...
 

أما قوله: إن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر، فهذا أيضا من أشنع الباطل وأعظمه، وقائله من أعظم الناس انتهاكا لحرمة كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - سبحانك هذا بهتان عظيم.
 

والتحقيق الذي لا شك فيه، وهو الذي كان عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعامة علماء المسلمين أنه لا يجوز العدول عن ظاهر كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حال من الأحوال بوجه من الوجوه، حتى يقوم دليل صحيح شرعي صارف عن الظاهر إلى المحتمل المرجوح.
 

والقول بأن العمل بظاهر الكتاب والسنة من أصول الكفر لا يصدر البتة عن عالم بكتاب الله وسنة رسوله، وإنما يصدر عمن لا علم له بالكتاب والسنة أصلا ; لأنه لجهله بهما يعتقد ظاهرهما كفرا، والواقع في نفس الأمر أن ظاهرهما بعيد مما ظنه، أشد من بُعد الشمس من اللمس) (24).
 

ومن معالم أهل السنة والجماعة في الاستدلال بكلام الله عز وجل أنهم يعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه، والمقصود هنا الإحكام والتشابه بالمعنى الخاص وليس العام:
 

فإن الإحكام والتشابه يطلق على نوعين (25):
1/ الإحكام والتشابه العام:
والإحكام هنا هو الوارد في مثل قوله تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: ١]، وعليه يكون المراد بالإحكام العام هو الإتقان (وإحكام الشيء إتقانه، فإحكام الكلام إتقانه بتمييز الصدق من الكذب في أخباره وتمييز الرشد من الغي في أوامره، والقرآن كله محكم بمعنى الإتقان) (26).

 

وأما المتشابه هنا فهو مثل الوارد في قوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: ٢٣]، وعليه يكون المراد بالتشابه العام (هو تماثل الكلام وتناسبه: بحيث يصدق بعضه بعضا؛ فإذا أمر بأمر لم يأمر بنقيضه في موضع آخر؛ بل يأمر به أو بنظيره أو بملزوماته؛ وإذا نهى عن شيء لم يأمر به في موضع آخر بل ينهى عنه أو عن نظيره أو عن ملزوماته إذا لم يكن هناك نسخ، وكذلك إذا أخبر بثبوت شيء لم يخبر بنقيض ذلك بل يخبر بثبوته أو بثبوت ملزوماته...
 

فهذا التشابه العام لا ينافي الإحكام العام بل هو مصدق له فإن الكلام المحكم المتقن يصدق بعضه بعضا لا يناقض بعضه بعضا بخلاف الإحكام الخاص؛ فإنه ضد التشابه الخاص) (27).
 

2/ الإحكام والتشابه الخاص:
وهذا النوع هو الوارد في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: ٧]، فالتشابه الخاص هو (مشابهة الشيء لغيره من وجه مع مخالفته له من وجه آخر بحيث يشتبه على بعض الناس إنه هو أو هو مثله وليس كذلك، والإحكام هو الفصل بينهما بحيث لا يشتبه أحدهما بالآخر) (28)، وهذا المعنى للمتشابه في الآية مبني على قراءة الوصل وعدم الوقف على لفظ الجلالة في الآية، فالمحكم هو الواضح البين، والمتشابه هو ما لم يتضح ويحتاج إلى تفكر وتأمل، وعليه فإن الذين يتبعون المتشابه بغير قصد الفتنة بل بقصد البحث عن الحق غير مذمومين، وهذا من طلب إزالة الإشكال، (فإن معرفة الإشكال علم في نفسه وفتح من الله تعالى) (29)، وطلب حل هذا الإشكال ممدوح غير مذموم.

 

أما على قراءة الوقف على لفظ الجلالة وعدم الوصل، فإن معنى المتشابه هو ما يُعلم معناه ولا تُدرك حقيقته، كوقت الساعة، وحقيقة أمور الآخرة، وعليه فإن الذين يتبعون هذا المتشابه هم مذمومون، لتطلبهم ما لا سبيل إلى الوصول إليه. (30)
 

وقد عمل السلف الصالح بهذه القاعدة، وذلك أن طريقة أهل الزيغ إتباع المتشابه وترك المحكم، (وأما طريقة الصحابة والتابعين وأئمة الحديث... فعكس هذه الطريق وهي أنهم يردون المتشابه إلى المحكم، ويأخذون من المحكم ما يفسر لهم المتشابه ويبينه لهم، فتتفق دلالته مع دلالة المحكم وتوافق النصوص بعضها بعضا، فإنها كلها من عند الله وما كان من عند الله فلا اختلاف فيه ولا تناقض، وإنما الاختلاف والتناقض فيما كان من عند غيره) (31).
 

ولذلك أصبح من معالم أهل السنة والجماعة أنهم يردون النصوص المشكلة والمحتملة إلى النصوص المحكمة والبينة، و(يجوز أن يُقال في بعض الآيات إنه مُشكل ومتشابه إذا ظُن أنه يُخالف غيره من الآيات المحكمة البينة، فإذا جاءت نصوص بينة محكمة بأمر، وجاء نص آخر يُظن أن ظاهره يخالف ذلك، يُقال في هذا: إنه يُرد المتشابه إلى المحكم، أما إذا نطق الكتاب أو السنة بمعنى واحد، لم يجز أن يُجعل ما يضاد ذلك المعنى هو الأصل، ويُجعل ما في القرآن والسنة مُشكلاً مُتشابهاً فلا يُقبل ما دل عليه.
 

نعم قد يُشكل على كثيرٍ من الناس نصوصٌ لا يفهمونها فتكون مشكلةً بالنسبة إليهم لعجز فهمهم عن معانيها) (32).
 

وهذا هو المنقول عن الصحابة ومن بعدهم، كما جاء عن ابن مسعود (33)، وابن عباس (34)، وعائشة (35)، والحسن البصري، وقتادة، والطبري(36)، وابن تيمية (37)، وابن كثير، وغيرهم(38).
 

قال الحسن البصري عند قوله تعالى: {الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة: ١٢١]، (يعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه، ويكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه)(39).
 

وقال قتادة عند آية آل عمران السابقة: (آمنوا بمتشابهه، وعملوا بمحكمه)(40).
 

وقال ابن كثير: (في القرآن آيات محكمات هن أم الكتاب، أي: بينات واضحات الدلالة، لا التباس فيها على أحد من الناس، ومنه آيات أخر فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس أو بعضهم، فمن رد ما اشتبه عليه إلى الواضح منه، وحكم محكمه على متشابهه عنده، فقد اهتدى، ومن عكس انعكس)(41).
 

ومن معالم أهل السنة والجماعة في الاستدلال اعتمادهم على أساليب العرب وطريقتهم في الفهم للكلام العربي، وذلك أن القرآن نزل بلسان عربي مبين، فالواجب هو تفسيره وفهمه بناء على ذلك، ولا بد في تفسير القرآن والحديث من أن يعرف ما يدل على مراد الله ورسوله من الألفاظ، وكيف يفهم كلامه، وذلك أن معرفة العربية التي خوطبنا بها مما يعين على أن نفهم مراد الله ورسوله بكلامه، وكذلك معرفة دلالة الألفاظ على المعاني؛ فإن عامة ضلال أهل البدع كان بهذا السبب (42)، ولذلك فقد (خاطب الله بكتابه العرب بلسانها، على ما تعرف من معانيها، وكان مما تعرف من معانيها اتساع لسانها)(43)، وذلك أن الجهل بدلالات نصوص الكتاب والسنة راجع إلى الجهل بسعة لسان العرب، وتنوع وجوهه، وجماع معانيه، وتفرقها، ومن علمه انتفت عنه الشُبَه التي تدخل على من جهل سعة لسانها (44).
 

وبيان ذلك أنه لا بد في فهم نصوص الشريعة من اتباع المعهود من أساليب كلام العرب الذين نزل القرآن بلسانهم، فإن كان للعرب في لسانهم عرف مستمر، فلا يصح العدول عنه في فهم الشريعة، وإن لم يكن هناك عرف، فلا يصح أن يُسلك في فهم كلامهم على ما لا يعرفونه، وهذا مطرد في المعاني والألفاظ والأساليب (45).
 

وكثير من أصحاب القراءات المعاصرة دخل عليهم الانحراف في هذا الباب بسبب جهلهم بلسان العرب فإنما (أهلكتهم العُجْمة)(46)، وفي هذا تنبيه بأن نجتهد في تعلم ما يُتوصل بتعلمه إلى معرفة أساليب خطاب الكتاب العزيز، والسنن النبوية؛ لتنتفي عنا الشبهة الداخلة على كثير من رؤوس أهل الزيغ والإلحاد والأهواء والبدع، الذين تأولوا بآرائهم المدخولة فأخطئوا، وتكلموا في كتاب الله جل وعز بلكنتهم العجمية دون معرفة، فضلوا وأضلوا (47).
 

ومما لا يخفى في مثل هذا الموضع التذكير بأن الانحراف في تفسير كلام الله تعالى بلا مستند صحيح يعتبر من قبيل القول على الله بغير علم، وهو التفسير بالرأي المذموم الذي ورد التحذير منه، كما ورد في النصوص الشرعية:
1- قال تعالى: {قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33].

 

2- وقال تعالى: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (168) إنَّمَا يَاًمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأََن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 168، 169].
 

3- وقال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْـئُـولاً} [الإسراء: 36].
 

ففي هذه الآيات تحذير من القول على الله بغير علم؛ ففي الآية الأولى جعله من المحرّمات، وفي الآية الثانية جعله من اتباع خطوات الشيطان، وفي الآية الثالثة جعله منهياً عنه، وفي هذا كلِّه دليلٌ على عدم جواز القول على الله بغير علم.
 

4- وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينزع العلم بعد أن أعطاكموه انتزاعا، ولكن ينتزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم، فيبقى ناس جهال، يستفتون فيفتون برأيهم، فيضلون ويضلون)(48)، وقد بوب عليه البخاري بقوله: (باب ما يذكر من ذم الرأي وتكلف القياس).
 

المبحث الثالث: أسباب ومظاهر الانحراف في القراءات المعاصرة للقرآن الكريم
من خلال النظر في واقع القراءات المعاصرة، وبيان شيء من مقولات أصحابها، يتبين أن تأملها كاف في إبطالها عند كل ذي عقل، ولمزيد بيان في أسباب ومظاهر ودلائل الانحرافات التي وقع فيها أصحاب هذه القراءات(49) يمكن إجمال ذلك في المطلبين التاليين:

 

المطلب الأول: أسباب الانحراف:
1/ أن من أسباب الانحراف عند أصحاب القراءات الانبهار بالنظريات الغربية، وذلك أن كثيراً ممن يستخدمون قراءات معاصرة للقرآن قد بلغ بهم الإعجاب غايته بالنظريات الغربية، حتى جعلوا هذه النظريات معياراً لقبول آيات الكتاب وأحاديث السنة، ولبسوا على المسلمين في ذلك باستخدامهم عبارات إسلامية ليموهوا باطلهم، وقد بين ابن تيمية حال أشباههم في زمنه فقال: (لما كنت بالإسكندرية اجتمع بي من رأيته يعظم المتفلسفة بالتهويل والتقليد)(50)، وبين أن منهجهم في ذلك أنهم (يعبرون بالعبارات الإسلامية القرآنية عن الإلحادات الفلسفية واليونانية) (51)، وسبب ذلك أنهم أخذوا العبارات الشرعية ووضعوا لها معاني توافق معتقدهم (52)، وأنهم يموهون على غيرهم بالتعبير عن المعاني الفلسفية بالعبارات الإسلامية (53)، ثم نتج من آثار تلبيسهم على أهل الإسلام أنهم يأخذون العبارات الشرعية ويضمنونها معاني باطلة، وتلك العبارات مقبولة عند المسلمين، فإذا سمعوها قبلوها، وضل بها من لم يعرف حقيقة دين الإسلام (54).

 

2/ ومن أسباب الانحراف أن كلامهم في دلالات النصوص الشرعية لا يستند إلى قواعد لغوية أو قوانين عقلية منضبطة، بل هو مبني على الهوى، ولذلك يقول بعضهم (فيما يتعلق بالقرآن بشكل خاص، فإني سأدافع عن طريقة جديدة في القراءة،... إن القراءة التي أحلم بها هي قراءة حرة إلى درجة التشرد والتسكع في كل الاتجاهات) (55)، ويرون أنه يمكن أن يُقرأ القرآن بعدة قراءات وتأويلات ولو كان بينها تعارض وشقاق (56).
 

وهذا أشد من أفعال الفرق القديمة المنتسبة للإسلام من أهل التأويل، وإن كان السابقون مدخلاً وذريعة للمعاصرين، حيث فسر المعاصرون القرآنَ بأنواع لا يقضي منها العلم عجباً، فبعضهم يقرر أنه (ليس هناك تفسير واحد صحيح للدين والباقي خطأ، لكل إنسان الحق في فهم الوحي وتأويله كما يشاء) (57)، ويقرر أيضاً أن (التفسير ليس حكراً على فرد معين أو على سلطة بعينها، بل لكل فرد الحرية المطلقة في أن يفسر كما يشاء، وفي أن يؤمن وأن يتصور العقائد كما يريد، وفي أن يفسر الكتاب على مستوى فهمه) (58).
 

3/ ومن أسباب الانحراف لديهم نزع القداسة عن نصوص الكتاب والسنة، فلا يوجد نص مقدس، بل كل النصوص سواء (ففي نقد النص تستوي النصوص على اختلافها) (59)، ولذلك يقرر أحدهم في معرض بيانه لنشأة العلوم الإسلامية أن التراث نشأ (من مركز واحد وهو القرآن والسنة، ولا يعني هذان المصدران أي تقديس لهما أو للتراث، بل هو مجرد وصف لواقع، فلو لم يكن هناك قرآن لما قام التراث القديم ولما نشأت الحضارة الإسلامية) (60).
 

بل صرح بعضهم بهدفه من نقد النص الشرعي، وأن ذلك بهدف زحزحة مسألة الوحي من الأرضية التقليدية المعروفة إلى أرضية التحليل الألسني التاريخي (61)، وأنه لا يهدف (إلى رفع القرآن إلى المستوى اللاهوتي) (62)، وبلغ الأمر ببعضهم إلى تقرير أن النقد في القراءات المعاصرة يؤدي إلى (نزع هالة القداسة عن الوحي بتعرية آليات الأسطرة (63) والتعالي التي يمارسها) (64).
4/ ومن أسباب الانحراف لديهم الإعراض عن الاحتجاج بالسنة النبوية بحجة الاكتفاء بالقرآن، و(أنه لا يوجد شيء في الحديث لا يوجد أصله في القرآن، والاعتماد على القرآن وحده هو الرجوع إلى الأصل) (65).

 

5/ ومن أسباب الانحراف لديهم الرغبة في قطع الصلة مع فهم السلف الصالح للقرآن من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان، فإن ذلك يفتح المجال لهم في العبث بدلالات الكتاب والسنة حسب أهوائهم ورغباتهم، ولذلك تراهم ينادون بصوت مرتفع بأن (القطيعة التي ندعوا إليها ليست القطيعة مع التراث بل القطيعة مع نوع من العلاقة مع التراث، القطيعة التي تحولنا من كائنات تراثية إلى كائنات لها تراث) (66)، بل يصرحون أكثر بأن (ما ندعوا إليه هو التخلي عن الفهم التراثي للتراث) (67)، و(ضرورة القطيعة مع الفهم التراثي للتراث) (68).
 

المطلب الثاني: مظاهر الانحراف:
1/ ومن مظاهر ودلائل الانحراف أن هذه النظريات الغربية التي يستخدمها أصحاب القراءات المعاصرة في تفسير النصوص الشرعية، نظريات ميتة لم يستخدمها أغلب الغرب في تفسير نصوصهم الدينية، وإنما أرادوا تمريرها على السذج من المنتسبين للإسلام ليطبقوها على القرآن والسنة، بل أبلغ من ذلك أن كثيراً من الباحثين الغربيين أنفسهم يرون أن هذه النظريات مجرد مظاهر شكلية متناقضة وغير مبرهنة (69).

 

بل حتى الجانب التطبيقي عند أصحاب القراءات المعاصرة أثبت فشله، حيث أخفقت مشاريع القراءات المعاصرة في تطبيق النظريات الجديدة في القراءة على النصوص الشرعية، واختلف أصحابها فيما بينهم (70).
 

2/ ومن مظاهر الانحراف عند أصحاب القراءات المعاصرة التلبيس واستخدام آليات التخفي، فهذا أحدهم يقرر أن (خير طريقة لبث ما تراه مناسباً من أقوال المستشرقين ألا تنسبها إليهم بصراحة، ولكن ادفعها إلى الأزهريين (71) على أنها بحث منك، وألبسها ثوباً رقيقاً لا يزعجهم مسها) (72).
 

وآخر يقرر بأنه يتمنى أن يصرح بكثير من الأفكار التي بداخله، ثم يقول عن نفسه: (ولكن ربما استخدامي لآليات التخفي حال بين فهم ما أردت أن أقول، نحن مجموعة من الأفراد لو اصطادونا لتم تصفيتنا واحدا واحدا،... ولذلك يسمونني " المفكر الزئبقي "، لا أحد يستطيع أن يمسك علي شيئا، الجماعات الإسلامية تراني ماركسياً، الشيوعيون يرون أني أصولي، الحكومة تتعامل على أنني شيوعي إخواني) (73)، وهذا آخر يؤكد على مقاصد القراءات غير البريئة بقوله: (لا ندعي أننا نقوم بعمل بريء، أي بقراءة لا تسهم في انتاج المقروء فمثل هذه القراءة لا وجود لها... بل إننا على العكس من ذلك نحاول أن نسهم بوعي وتصميم في إنتاج مقروئنا) (74)، وهذه القراءات تستهدف بالمقام الأول التيارات السلفية (75)، بل بلغ ببعضهم التصريح باتخاذهم التراث السلفي غطاء لترويج قبول طروحاتهم لدى الجماهير، حيث يقول: (اتجهت التيارات العلمانية إلى مواجهة الحاضر ومحاولة حل إشكالياته بآليات ذات طابع عصري في أغلب الأحيان، ولكنها أحست بضرورة طرح هذه الآليات طرحاً يسوغ قبولها من الجماهير فوجدت في بعض اتجاهات التراث سنداً لتوجهاتها...، حيث تحول التراث لدى السلفيين إلى إطار مرجعي، بينما تحول عند العلمانيين إلى غطاء) (76).
 

ومن مظاهر التلبيس عندهم إدخال المصادر الشرعية مثل القرآن والسنة تحت مسمى "التراث"، ومن ثم نقد التراث بشكل عام، فالتراث عندهم يشمل (الكتب المقدسة... العهد القديم والعهد الجديد والقرآن... وهي تراث في قلوب الناس وليست فقط تراثاً مكتوباً) (77).
 

3/ ومن مظاهر الانحراف لديهم ما يمكن تسميته: كسر احتكار الاجتهاد في المسائل الشرعية ومن ذلك تفسير النص الشرعي، ليصبح تفسير النصوص الشرعية مستباحاً لكل صاحب هوى يريد تمرير مشروعاته من خلالها، وهو مقصد مهم بالنسبة لهم، وفي ذلك يقرر بعضهم صعوبة الاجتهاد في الشريعة، وأنه يجب (وبشكل أهم الانتباه إلى المشكلة الخطيرة التالية: وهي أن مسألة الاجتهاد معتبرة داخل تراث الفكر الإسلامي بصفتها امتيازاً يحتكره الفقهاء، نقصد بذلك الأئمة المجتهدين) (78).
 

4/ ومن مظاهر الانحراف لديهم التركيز على ثلاثة من علوم الشريعة، واعتبارها مدخلاً لتمرير مشروعات القراءات المعاصرة، وتلك العلوم هي التفسير وأصول الفقه وعلوم القرآن، وقد اجتهدوا في استغلال هذه العلوم الثلاثة بلا قواعد علمية ولا ضوابط منهجية (79)، بل حاولوا تقليد الفلاسفة الغربيين في نقد وتفسير كتبهم المقدسة بنفس الآليات والنظريات مع استبدال القرآن بالتوراة، وفي ذلك يقرر أحدهم أن الاستفادة من ترجمة الفلاسفة الغربيين لكتبهم يتمثل في اسقاط المادة التي عملوا عليها كالتراث اليهودي وإحلال التراث الإسلامي مكانه مع الابقاء على نفس المنهج فيما يتعلق بتفسير الكتب المقدسة (80).
 

5/ ومن مظاهر الانحراف لديهم انتقاص علماء المسلمين من السلف الصالح، في مقابل تعظيم الحياة المادية حيث يرون (أن منطق "سيرة السلف الصالح" التي تمثل "المدينة الفاضلة" في التجربة التاريخية للأمة العربية الإسلامية كان شيئاً آخر: كان منطقاً يقوم على المبدأ التالي: الدنيا مجرد قنطرة إلى الآخرة، وقد أدى هذا المنطق وظيفته يوم كان العصر عصر إيمان فقط وليس عصر علم وتقنية وأيدلوجيات) (81).
 

6/ ومن مظاهر الانحراف عندهم شدة انبهارهم بالهالة الإستشراقية، وتلقيهم نتائجها بالتسليم، واستمداد طرق الاستدلال من المستشرقين، وقد ذكر بعض الباحثين أنه بعد دراسة متأنية لمشروعات أصحاب القراءات المعاصرة للنص الشرعي، وتتبع لمصادر استمدادهم، تبين له أنها استمدت مادتها وتحليلاتها الأساسية من أعمال المستشرقين، ثم أخذ يبرهن على ذلك بجملة من الدلائل والبراهين (82)، بل إنه تتبع رحلة الشبهات الإستشراقية بداية من منابتها الغربية، ومروراً بالمستوردين العرب لها، وانتهاء بالمستهلك المحلي لتلك الشبهات الفاسدة (83).
 

ومن تلك الشواهد على أن نظرة أصحاب القراءات المعاصرة للمستشرقين هي نظرة إجلال وإكبار على ما قدموه من تلبيس، ما صرح به بعضهم من أن (تَقَدُّم الدراسات القرآنية قد تم بفضل التبحر الأكاديمي الاستشراقي منذ القرن التاسع عشر) (84).
بل صرح بعضهم بأنه (أفاد إفادة جلَّى في ميدان الدراسات الإسلامية على نهج المستشرقين) (85).

 

وفي مقابل ذلك يشتكي أحدهم من نظرة الغرب الدونية له حين يقول: (على الرغم من أني أحد الباحثين المسلمين المعتنقين للمنهج العلمي الراديكالي للظاهرة الدينية إلا أنهم يستمرون في النظر إليَّ وكأني مسلم تقليدي) (86).
 

وإذا أردت أن تنظر إلى حجم الذل والانكسار لأصحاب القراءات المعاصرة أمام بوابة المستشرقين، وترسيخ الهزيمة النفسية في النفوس فاسمع لقائلهم: (ماذا يضير الاستشراق، والغرب بشكل عام أن تظل تناطحه بشكل مباشر ومكشوف إلى أبد الدهر، إنه سوف ينطحك لا محالة، وسوف ينتصر عليك في كل مرة) (87).
 

وإن أردت مثالاً لشدة الغفلة على إحسان الظن بهؤلاء المستشرقين فاقرأ ما كتبه أحد المستشرقين في مقدمة ترجمته للقرآن: من أن القرآن ليس وحياً، وليس معجزاً، وأنه يحتوي على التناقض، وأنه مستمد في معظمه من اليهودية، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو مؤلف القرآن ومخططه باحتيال ومكر، وقد صرح هذا المستشرق (بهدفه من الترجمة، وهو تسليح النصارى البروستانت في حربهم التنصيرية ضد الإسلام والمسلمين) (88).
 

ثم انظر بعد ذلك إلى أحد المخدوعين بهم عندما يقول عن هذا المستشرق بعد كلامه عن ترجمته للقرآن، إن هذا المستشرق كان (منصفاً للإسلام، بريئاً رغم تدينه المسيحي من تعصب المبشرين المسيحيين وأحكامهم السابقة الزائفة) (89).
 

ومن أساليب المستشرقين في تلبيسهم على المثقفين: الحياد المصطنع، والموضوعية العلمية، وقد كشف ذلك بعض من كان مغتراً بهم، وتبين له زيفهم حين قال (بداية من منتصف القرن التاسع عشر يبذل هؤلاء المستشرقون كل ما في وسعهم ليبدوا موضوعيين في كتاباتهم، وفي جعل كتاباتهم أكثر دلالة وأكثر جدية وموضوعية، وأكثر تدقيقاً في المنهج اللغوي، لكن دون فائدة، ذلك لأن الدوافع الداخلية التي تضطرم بالحقد في قلوبهم ضد الإسلام وكتاب الإسلام المقدس ونبي الإسلام ظلت كما هي بل ازدادت تأججاً) (90).
 

المبحث الرابع: نماذج من مفاهيم القراءات المعاصرة للقرآن الكريم.
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: مدخل إلى مفاهيم القراءات المعاصرة
سبق بيان المراد بالقراءات المعاصرة وأن المراد بها (تعدد الاستدلالات بالقران الكريم بناء على بعض النظريات الحديثة التي لم تثبت أو ثبت بطلانها، والإعراض عن طريقة الصحابة والتابعين في الاستدلال)، وعلى ذلك سار أصحاب القراءات المعاصرة في نبذ الضوابط التي وضعها العلماء للاستدلال من القرآن وجَعْل المجال مفتوح لأي شخص أن يفسر القرآن بالطريقة التي يراها، فمرادهم بالقراءات كما يقرر أحدهم: ليس أن تكون (مجرد شارح مبسط، أو تابع مقلد، أو حارس مدافع عن العقيدة والحقيقة.

 

والتفكير بصورة مغايرة، يعني أن نبدل وننسخ، أو نحرِّف ونحوِّر، أو نزحزح ونقلب، أو ننقب ونكشف، أو نحفر ونفكك، أو نرمم ونطعم، أو نفسر ونؤول...
فهذه وجوه للتفكير وللقراءة في النصوص) (91).

 

وتجدر الإشارة هنا إلى أن أصحاب هذه القراءات لا يطعنون مباشرة في القرآن العظيم، فإن هذا ينفر الناس عنهم، وإنما يتدرجون بالطعن فيما يتعلق بالقرآن من دلالات، وهذا (شأن كل من أراد أن يُظهر خلاف ما عليه أمة من الأمم من الحق إنما يأتيهم بالأسهل الأقرب إلى موافقتهم فإن شياطين الإنس والجن لا يأتون ابتداء ينقضون الأصول العظيمة الظاهرة فإنهم لا يتمكنون...، وإنما الغرض التنبيه على أن دعاة الباطل المخالفين لما جاءت به الرسل يتدرجون من الأسهل والأقرب إلى موافقة الناس، إلى أن ينتهوا إلى هدم الدين) (92).
 

ويمكن ترتيب مراحل نقد النصوص الشرعية في الكتابات العربية عند أصحاب القراءات المعاصرة إلى ثلاث مراحل(93):
 

الأولى / مرحلة نقد النص بناء على مراعاة رؤية القائل له.
حيث يتم نقد النص في هذه المرحلة مع الأخذ بالاعتبار مراد القائل وقصده في الألفاظ التي قالها، لكن يخصص النص بالتاريخ والسبب والزمن الذي قيل فيه، وأنه خاص بذلك الزمن ولا يتعداه إلى زمن آخر، وهو ما يسمى بـ (القراءة التاريخية)، وسيأتي مزيد بيان لذلك في موضعه بإذن الله.

 

الثانية / مرحلة نقد النص بناء على دلالة النص ذاته بغض النظر عن مراد قائله.
حيث يتم نقد النص في هذه المرحلة مع عدم اعتبار مراد القائل وقصده في الألفاظ التي قالها، وهو ما يسمى بـ (موت المؤلف)، وسيأتي مزيد بيان لذلك في موضعه بإذن الله.

 

الثالثة / مرحلة نقد النص بناء على فهم القارئ والمتلقي للنص بغض النظر عن دلالة النص أو مراد قائل النص.
حيث يتم نقد النص في هذه المرحلة مع عدم اعتبار دلالة النص أو مراد القائل وقصده في الألفاظ التي قالها، وهو ما يسمى بـ (موت النص) أو (النص المفتوح)، فالقارئ هو الذي يصنع معنى النص (94)، وسيأتي مزيد بيان لذلك في موضعه بإذن الله.

 

وعلى ما سبق فإن القراءات المعاصرة للقرآن تبدأ بـ (القراءة التاريخية)، حيث تخصص النص بالسبب والظروف التي نزل فيها والوقائع المعينة فقط، ثم بعد ذلك تأتي مرحلة القراءة بناء على تفسير لفظ النص بغض النظر عن مراد القائل وهو ما يعرف بـ (موت المؤلف)، وهي تفسر ذلك بكل الطرق العبثية التي يدل عليها اللفظ مما يتوافق مع فهم القارئ أو المتلقي لهذا النص سواء وافق مراد القائل أو لا، ثم بعد ذلك تأتي مرحلة القراءة بناء على تفسير اللفظ حسب فهم القارئ، بغض النظر عن مراد القائل أو دلالة اللفظ وهو ما يعرف بـ(موت النص) أو (النص المفتوح)، وهي تفسر ذلك بكل الطرق العبثية مما يتوافق مع فهم القارئ أو المتلقي لهذا النص سواء كان هذا التفسير يدل عليه اللفظ أو لا، وسواء وافق مراد القائل أو لا، وهذا العبث أو اللعب في الاستدلال بالنصوص الشرعية قد تقرر التحذير منه عند أهل العلم، وقد أطلق بعض أهل العلم على عملية صرف معنى اللفظ عن ظاهره بدون دليل (لعباً) (95)، لأنه عبث في الاستدلال.
 

وذلك أنه عندما تعذر على كثير من أصحاب المناهج المنحرفة الطعن في أصل القرآن ومصدريته الإلاهية أو التشكيك فيه، بدأوا يفكرون في طرق جديدة لإبطال هداية القرآن للعالمين، وهي نزع القداسة عن القرآن من خلال لغة القرآن وطرق الاستدلال به.
 

فالمرحلة الأولى تَعتمد مراد القائل، وتَعتمد دلالة اللفظ، ولكنها تجعله خاصاً بزمن النزول.
والمرحلة الثانية لا تَعتمد مراد القائل، وتَعتمد دلالة اللفظ بأي طريقة.
والمرحلة الثالثة لا تَعتمد مراد القائل، ولا تَعتمد دلالة اللفظ.

 

ومما ينبغي الإشارة إليه هنا أن هذه الطرق التي سلكها أصحاب القراءات المعاصرة في بيان مراد الله بكلامه تعتبر من الطرق المنحرفة، ويكفي في بيان فسادها تصورها ومعرفة حقيقتها، ويمكن إجمال بيان الرد على انحرافهم في المعالم التالية (96):
1/ أن طريقتهم فيها إعراض عن تحكيم السنة النبوية، وأنها بيان لكلام الله، وهذا من أعظم أسباب الضلال، وهو تلقي الأحكام من القرآن فقط وردِّ السنة.

 

2/ أنهم لا يعتبرون بأساليب العرب في كلامهم، مع أن الله أنزل القرآن بلسان عربي مبين، وذلك أنهم يفسرون القرآن بالهوى، فلا قواعد منضبطة صحيحة في منهجهم.
 

3/ إعراضهم عن بيان الصحابة رضي الله عنهم لمعاني القرآن، بل ردهم لتفاسير الصحابة لمعاني الآيات، وإذا كانوا يرفضون تفاسير الصحابة الذين شاهدوا التنزيل وعرفوا التأويل فأنى لهم الهداية.
 

4/ عدم تعظيمهم لله ولكلامه، فهم يزعمون نزع القداسة عن كلام الله، لأنه عندهم مثل كلام البشر، وكفى بهذا ضلالاً مبينا.
 

5/ أن منهجهم هو في تقديم عقولهم على النقل، فميزان الصواب عندهم هو ما وافق عقولهم، أمَّا العقل الصحيح فلا يمكن أن يعارض النقل الصريح بل هو موافق له.
 

المطلب الثاني: (القراءة التاريخية).
يمكن بيان المراد بـ (القراءة التاريخية) أنها: قصر ألفاظ النص على الزمان والمكان الذي نزل فيه، وعلى سبب وروده، بحيث لا يصح العمل به في غير ذلك الزمان والمكان، لأن كل لفظ يتأثر بالزمان والمكان الذي نزل فيه، وذلك لأن الألفاظ قابلة للتطور والتغير في أزمان أو أماكن أخرى(97)، وبعبارة أخرى فإن المراد بهذه القراءة: هو أن (الألفاظ تتصف بالنسبية التاريخية، أي أنها تتطور بتطور التاريخ)(98).

 

وبالتالي فإن نصوص القرآن والسنة تفسر بناء على الظروف الزمانية والمكانية التي نزلت فيها، ولا يصح نقل معانيها السابقة إلى الزمن المعاصر لأن الزمان والمكان اختلف بناء على تطور اللفظ.
 

ومما يؤكد ذلك ما ذكره بعضهم من (أن الخطاب الإلهي خطاب تاريخي، وبما هو تاريخي فإن معناه لا يتحقق إلا من خلال التأويل الإنساني، إنه لا يتضمن معنى مفارقاً جوهرياً ثابتاً له إطلاقية المطلق وقداسة الإله)(99).
 

وحاول أصحاب هذه القراءة التاريخية التمسك بقاعدة أسباب النزول في دعم فكرة القراءة التاريخية وتأكيد مفهوم أن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ، ويقصدون بخصوص السبب: قصر اللفظ على الواقعة المعينة فقط ولا يقاس عليها غيرها، وهذا بخلاف مراد القائلين من أهل العلم أن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ، حيث يقصدون أن سبب النزول يُقاس عليه ما يماثله من الوقائع (100).
 

ومن المقولات التي تبين المراد بالقراءة التاريخية عند أصحابها ما ذكره بعضهم في بيان سبب تغير معاني الكتاب والسنة تبعاً لتغير التاريخ، حيث يقرر أهمية (ترك مفهومي الإسلام والتراث مفتوحين، أي غير محددين بشكل نهائي ومغلق، لأنهما خاضعان للتغيير المستمر الذي يفرضه التاريخ) (101)، ويقررون أن من (أهم الجوانب التي يتم تجاهلها في إشكالية النص الديني – ولعلها من أخطرها على الإطلاق – البعد التاريخي لهذه النصوص... فإن البعد التاريخي الذي نتعرض له هنا يتعلق بتاريخية المفاهيم التي تطرحها النصوص من خلال منطوقها، وذلك نتيجة طبيعية لتاريخية اللغة التي صيغت بها النصوص) (102).
 

بل بلغ بعضهم إلى اعتبار أن الواقع هو الأصل الذي يحدد معنى النص، ومنه تكوَّن النص، ولا فائدة من نص لا تتبدل وتتغير معانيه، فإن (الواقع إذاً هو الأصل ولا سبيل لإهداره، من الواقع تكوَّن النص، ومن لغته وثقافته صيغت مفاهيمه، ومن خلال حركته بفاعلية البشر تتجدد دلالته، فالواقع أولاً، والواقع ثانياً، والواقع أخيراً، وإهدار الواقع لحساب نص جامد ثابت المعنى والدلالة يحول كليهما إلى اسطورة) (103)، ويقرر بعضهم بأننا (إذا قرأنا نصوص الأحكام من خلال التحليل العميق لبنية النصوص... وفي السياق الاجتماعي المنتج للأحكام والقوانين، فربما قادتنا القراءة إلى إسقاط كثير من تلك الأحكام بوصفها أحكاماً تاريخية، كانت تصف واقعاً أكثر مما تصف تشريعاً)(104).
 

المطلب الثالث: (موت المؤلف).
يمكن بيان المراد بـ (موت المؤلف) أنه: تفسير النص ونقده بغض النظر عن مراد القائل، بل بحسب قدرة الناقد اللغوية بلا ضوابط في تفسير الألفاظ(105).

 

وقد بدأ إطلاق هذا الشعار أحد الفلاسفة الغربيين عندما ذكر بأنه قد مات المؤلف فلم يعد يستطع أن يتحكم في تفسير المراد بالنص الذي قام بتأليفه، وأن تفسير النص قد انتقل إلى القارئ وليس المؤلف(106).
 

(فإن مهمة القارئ الناقد أن لا يؤخذ بما يقوله النص، مهمته أن يتحرر من سلطة النص لكي يقرأ ما لا يقوله، فالنص يحتاج إلى عين ترى فيه ما لم يره المؤلف وما لم يخطر له) (107).
 

ولذلك فإن وظيفة القارئ عندهم هو أن يترك (ما يريد المؤلف قوله أو طرحه للكشف عما لا يقوله ولا يفكر فيه عندما ينطق ويفكر) (108).
 

المطلب الرابع: (موت النص)
يمكن بيان المراد بـ (موت النص) أنه: نقد النص مع عدم اعتبار دلالة النص أو مراد القائل وقصده في الألفاظ التي قالها، فالقارئ هو الذي يصنع معنى النص (109).

 

وفي ذلك يقرر بعضهم أن (القرآن نص مفتوح على جميع المعاني، ولا يمكن لأي تفسير أو تأويل أن يغلقه أو يستنفده بشكل نهائي) (110).
 

وعلى ذلك فإن (القراءات المهمة للقرآن ليست هي التي تقول لنا ما أراد النص قوله، وإنما تكشف عما يسكت عنه النص أو يستبعده أو يتناساه، أي هي لا تفسر المراد بقدر ما تكشف عن إرادة الحجب في الكلام) (111).
 

وبعضهم يعبر عن ذلك بعبارة أخرى هي (النص المكتوب) لأنه (كُتب حتى يستطيع القارئ في كل قراءة أن يَكتبه ويُنتجه، وهو يقتضي تأويلاً مستمراً ومتغيراً عند كل قراءة) (112).
 

وبعضهم يعبر عنه بـ (النص المغلق) لأنه مغلق عن أحادية القراءة، ومفتوح على تعددية القراءة، وهو النص الذي ينفتح على كل احتمالات التفسير (113).
 

الخاتمة وأهم التوصيات:
في ختام هذا البحث أحمد الله على ما وفق وأعان، وأذكر جملة مما ينتج عن هذا البحث:
1)     أن القراءات المعاصرة للقرآن الكريم يمكن تعريفها بأنها: (تعدد الاستدلالات بالقران الكريم بناء على بعض النظريات الحديثة التي لم تثبت أو ثبت بطلانها، والإعراض عن طريقة الصحابة والتابعين في الاستدلال).
2)     بيان أهمية مناهج الاستدلال الصحيحة عند أهل السنة والجماعة.
3)     بيان جملة من أسباب ومظاهر الانحراف المعاصر في الاستدلال عند المخالفين لأهل السنة في الكتابات العربية، وإبراز ذلك من خلال القراءات المعاصرة للقرآن الكريم.
4)     بيان لبعض مفاهيم القراءات المعاصرة للقرآن الكريم.

 

وأشير إلى أهم التوصيات فيما يلي:
1)     أهمية العناية بمصادر التلقي وطرق الاستدلال عند أهل السنة والجماعة.
2)     أهمية التصدي للمشروعات الحداثية في القراءات المعاصرة للقرآن الكريم، وبيان زيفها.
3)     جمع التطبيقات العملية التي قام أصحاب القراءات المعاصرة بتنزيلها على نصوص الكتاب والسنة مع الرد عليها وتفنيدها.
4)     أهمية توعية الجيل المعاصر من أهل الإسلام بفساد هذه القراءات، وبيان انحراف أصحابها.
5)     أهمية التفريق في الخطأ بين من يقصد الوصول إلى الحق وهو مُعظِّم لله ولكتابه ولرسوله صلى الله عليه وسلم ومُسَلِّم بذلك وهو من أهل الاجتهاد في الاستدلال بنصوص الكتاب والسنة، وبين من لا يُعظِّم الله ولا كتابه ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا يُسَلِّم بذلك وليس من أهل الاجتهاد.

 

________________________________

(1) أخرجه أحمد في المسند رقم (11773)، قال الهيثمي في مجمع الزوائد رقم (14763): (رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير فطر بن خليفة، وهو ثقة)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة رقم (2487).
(2) ينظر: مجمل مقاييس اللغة لابن فارس 1/750، لسان العرب 1/128 مادة: قرأ،.
(3) ينظر: النص القرآني لقطب الريسوني ص 207.
(4) القراءات المعاصرة للقرآن الكريم في ضوء ضوابط التفسير ص 56.
(5) هذا بالنظر إلى القائل لهذا النص، حيث إن مناهج السابقين تهتم بتفسير النص وبيان مراد المتكلم من كلامه.
(6) هذا بالنظر إلى المتلقي لهذا النص، حيث إن مناهج كثير من أصحاب القراءات المعاصرة لا تهتم ببيان مراد المتكلم، بل تهتم بكيفية فهم القارئ لكلام المتكلم.
(7) النص القرآني لقطب الريسوني ص 207.
(8) القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، محمد أركون ص 70.
(9) ينظر: الحاشية السنية على العقيدة الواسطية ص 130.
(10) درء التعارض لابن تيمية 1/277.
(11) الذوق والوجد والمكاشفة هي من طرق الصوفية في تمييز الحقائق.
(12) مجموع الفتاوى لابن تيمية 13/28.
(13) ينظر: روضة الناظر لابن قدامة 2/ 563، مجموع الفتاوى لابن تيمية 3/43، 6/356، القواعد المثلى لابن عثيمين ص 176.
(14) الحجة في بيان المحجة للأصبهاني 1/188.
(15) مجموع الفتاوى لابن تيمية 13/252.
(16) الصواعق المرسلة لابن القيم 1/288.
(17) الصواعق المرسلة لابن القيم 1/310.
وينظر: 1/324.
(18) الصواعق المرسلة لابن القيم 1/330.
(19) ينظر في بيان ذلك البحر المحيط للزركشي 5/ 36.
(20) أضواء البيان للشنقيطي 7/472.
(21) ينظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية 7/116.
(22) أساس التقديس للرازي ص 236.
(23) حاشية الصاوي على تفسير الجلالين 3/9.
(24) أضواء البيان للشنقيطي 7/467.
وينظر: 7/470، 472.
(25) ينظر: الصواعق المرسلة لابن القيم 1/212.
(26) مجموع الفتاوى لابن تيمية 3/60.
(27) مجموع الفتاوى لابن تيمية 3/61.
(28) مجموع الفتاوى لابن تيمية 3/62.
(29) الفروق للقرافي 1/241.
(30) ينظر: شرح النووي على مسلم 16/217، مجموع الفتاوى لابن تيمية 3/54 -68، 13/144، 311، 17/383-386، 393-395، تفسير ابن كثير 2/6-13.
(31) إعلام الموقعين لابن القيم 4/58.
(32) مجموع الفتاوى لابن تيمية 17/307.
(33) ينظر: مجموع الفتاوى 17/386.
(34) ينظر: تفسير الطبري 5/214.
(35) ينظر: المرجع السابق 5/210.
(36) ينظر: المرجع السابق 1/7.
(37) ينظر: مجموع الفتاوى 17/386.
(38) ينظر: تفسير ابن أبي حاتم 2/601.
(39) تفسير الطبري 2/569.
(40) المرجع السابق 5/225.
(41) تفسير ابن كثير 2/6.
(42) ينظر: مجموع الفتاوى، ابن تيمية 7/ 116.
(43) الرسالة للشافعي ص 50.
(44) ينظر: المرجع السابق ص 47.
(45) ينظر: الموافقات، للشاطبي 2/ 131.
(46) خلق أفعال العباد، البخاري ص 75.
(47) ينظر: تهذيب اللغة، للأزهري 1/ 6.
(48) أخرجه البخاري رقم (7307).
(49) على تداخل في بعضها، ففي بعضها أسباب أدت لانحرافهم في هذا الباب، وفي بعضها مظاهر يمكن معرفتهم من خلال التلبس بها، وفي بعضها دلائل على فساد هذا المنهج، وقد يجتمع في الأمر الواحد أن يكون سبباً ومظهراً في نفس الوقت.
(50) مجموع الفتاوى لابن تيمية 9/ 82.
(51) مجموع الفتاوى لابن تيمية 7/ 597.
(52) ينظر: بغية المرتاد لابن تيمية 1/ 235.
(53) ينظر: جامع المسائل لابن تيمية 6/ 139.
(54) ينظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية 17/ 333.
(55) الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، محمد أركون ص 76.
(56) نقد النص، علي حرب ص 63.
(57) رساله في اللاهوت والسياسة، اسبنوزا، ترجمة حسن حنفي ص 16، والكلام لحسن حنفي.
(58) رساله في اللاهوت والسياسة، اسبنوزا، ترجمة حسن حنفي ص 36، والكلام لحسن حنفي.
(59) نقد النص، علي حرب ص 11.
(60) التراث والتجديد، حسن حنفي ص 154.
(61) ينظر: أين هو الفكر الإسلامي، محمد أركون ص 55.
(62) المرجع السابق ص 57.
(63) أي القداسة الأسطورية.
(64) نقد النص، علي حرب ص 203.
(65) الدين والثورة، حسن حنفي 3/ 38.
(66) نحن والتراث، محمد الجابري ص 21.
(67) المرجع السابق ص 21.
(68) المرجع السابق 19.
(69) ينظر: التأويل الحداثي للتراث، إبراهيم السكران ص 32 - 38، فقد ذكر جملة من الأمثلة والنقولات التي تبين الفجوة بين النظرية والتطبيق عند عامة من يفسر الكتاب المقدس.
(70) ينظر: نظرات في القراءة المعاصرة للقرآن الكريم، محمد رستم ص 21.
(71) أي المنتسبين للعلم الشرعي من علماء الأزهر.
(72) السنة ومكانتها في التشريع، مصطفى السباعي ص 238، والسباعي ينقل هذه المقولة عن أحمد أمين.
(73) صحيفة " ناشري " نقلاً عن حسن حنفي، ينظر الرابط التالي:
http://nashiri.net/articles/general-articles/791.html?task=view
(74) الخطاب العربي المعاصر، محمد الجابري ص 12.
(75) ينظر: بنية العقل العربي، محمد الجابري ص 552.
(76) نقد الخطاب الديني، نصر أبو زيد ص 154.
(77) دراسات فلسفية، حسن حنفي ص 54.
(78) من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي، محمد أركون ص 11.
(79) ينظر: الفلسفة والنص، حسن الأسمري ص 176.
(80) ينظر: رساله في اللاهوت والسياسة، اسبنوزا، ترجمة حسن حنفي ص 7، والنقل هنا عن حسن حنفي.
(81) وجهة نظر نحو إعادة بناء قضايا الفكر العربي المعاصر، محمد الجابري ص 46.
(82) ينظر: التأويل الحداثي للتراث، ابراهيم السكران ص 12.
(83) ينظر: التأويل الحداثي للتراث، ابراهيم السكران ص 273.
(84) الفكر الأصولي، محمد أركون ص 70، وينظر: ص 39.
(85) موسوعة الفلسفة، عبدالرحمن بدوي 1/ 295، والنقل هو لعبدالرحمن بدوي وهو يترجم لنفسه.
(86) الإسلام أوروبا الغرب رهانات المعنى وإرادات الهيمنة، محمد أركون ص 45.
(87) الاستشراق بين دعاته ومعارضيه، هاشم صالح ص 5.
(88) رؤية إسلامية للاستشراق، أحمد غراب ص 34- 35.
(89) موسوعة المستشرقين، عبدالرحمن بدوي ص 359.
وقد تراجع عبدالرحمن بدوي عن اغتراره بالمستشرقين فكتب في آخر حياته كتاب (دفاع عن القرآن) وذكر فيه هجوم المستشرقين على القرآن، وحقدهم عليه، وقام بفضح تلبيسهم في ذلك، ينظر: دفاع عن القرآن، عبدالرحمن بدوي ص 5 – 8.
(90) دفاع عن القرآن، عبدالرحمن بدوي ص 7.
(91) نقد النص، علي حرب ص 133.
(92) بيان تلبيس الجهمية 3/ 511 - 515.
(93) ينظر: العلمانيون والقرآن الكريم، أحمد الطعان، ص 700، محاضرة: القراءات المعاصرة للقرآن الكريم، د. أحمد الخطيب:
 http://vb.tafsir.net/tafsir28401/#.VmDWMSHouP8
(94) ينظر: الخروج من التيه، عبدالعزيز حمودة ص 116.
(95) ينظر: مراقي السعود، للشنقيطي ص 234، مذكرة أصول الفقه على روضة الناظر، للشنقيطي ص 177، منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد، عثمان علي حسن 2/ 546.
(96) مع الإشارة أن التفصيل في الرد على انحرافاتهم يستحق بحثاً مستقلاً.
(97) ينظر: نقد النص، علي حرب ص65، النص القرآني، قطب الريسوني ص 209، الفلسفة والنص، حسن الأسمري ص 421، المعجم الفلسفي، جميل صليبا ص 229، دليل الناقد الأدبي، سعد البازعي ص 80.
(98) المعجم الفلسفي، عبدالمنعم حفني ص 311.
(99) النص: السلطة: الحقيقة، نصر أبو زيد، ص 33.
(100) ينظر: النص القرآني، قطب الريسوني ص 286، شرح مقدمة في أصول التفسير، مساعد الطيار ص 86، المحرر في علوم القرآن، مساعد الطيار ص 137.
(101) الفكر الإسلامي قراءة علمية، محمد أركون ص 20.
(102) نقد الخطاب الديني، نصر أبو زيد ص 118.
(103) نقد الخطاب الديني، نصر أبو زيد ص 99.
(104) النص السلطة الحقيقة، نصر أبو زيد ص 139.
(105) ينظر: دليل الناقد الأدبي، سعد البازعي ص 241.
(106) ينظر: لذة النص، رولان بارت ص 56.
(107) الممنوع والممتنع في نقد الذات الفكرة، علي حرب ص 22.
(108) نقد النص، علي حرب ص 21.
(109) ينظر: الخروج من التيه، عبدالعزيز حمودة ص 116، العلمانيون والقرآن الكريم، أحمد الطعان ص 700.
(110) تاريخية الفكر العربي والإسلامي، محمد أركون ص 145.
(111) نقد النص، علي حرب ص 20.
(112) دليل الناقد الأدبي، سعد البازعي ص 274.
(113) ينظر: دليل الناقد الأدبي، سعد البازعي ص 273.